ولد أحظانا.. رصيد عطاء فكري وأدبي/ محمد المنى

علمتُ متأخراً بالتكريم الذي منحته مؤخراً إمارةُ الشارقة للدكتور محمدو ولد أحظانا، كواحد من أهم الشخصيات الثقافية والفكرية لهذا العام، ثم شغلتني شواغل عن التعليق على هذا الحدث الثقافي الذي لا يتكرر كثيراً مع أفراد نُخبتنا الثقافية والفكرية. وبسبب هذا الانشغال وذلك التأخر فلن أزيدَ على مادة سبق أن نشرتُها هنا حول الإسهامات الثقافية والفكرية والأدبية للدكتور ولد أحظانا، بوصفه مثقفاً ثريَّ المعارف متعددَ المواهب؛ علاوةً على كونه فقيهاً وسيرياً ولغوياً متمكناً، وشاعراً (فصيحاً ولهجياً) وقصاصاً وروائياً ومؤرخاً ورساماً صاحبَ ريشة بارعة.

 كان ولد أحظانا أحد أعضاء الجيل الثاني من المعلمين الذين نهضوا بالتربية والتعليم في الوطن، ثم أصبح أحد أبرز وجوه الجيل الأول من أساتذة الفلسفة الموريتانيين، لصبح بعد ذلك أحدَ أهم مؤسسي الصحافة المستقلة في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات. كما أنه من الموريتانيين القلائل الذين رسموا اللوحةَ ونظَّموا معارِضَ فنية تشكيلية في تلك السنوات أيضاً، وهو اليوم أبرز الدارسين للثقافة الشعبية الموريتانية في مكنوناتها البنيوية والرمزية المضمرة والثاوية، وأغزرهم إنتاجاً وأعمقهم تناولا.  

حصل الدكتور ولد أحظانا على جوائز ثقافية وفكرية عديدة، في الداخل والخارج، مثل جائزة الدكتورة سعاد الصباح للدراسات الإنسانية عام 1990، وجائزة منتدى الفكر والإبداع في عمان عام 1993، وجائزة الشارقة الثقافية عام 2000.. كما أحرز جائزةَ شنقيط للآداب والفنون في دورتين (الأولى في فرع العلوم الاجتماعية والثانية في فرع الآداب)، وعلى حد علمي فإنه الوحيد الذي نال هذه الجائزة مرتين منفرداً.   

 

******

كتب الدكتور محمدو ولد أحظانا مئات المقالات السياسية والثقافية (الفكرية والأدبية)، وله العديد من المؤلفات المنشورة وغير المنشورة، مثل كتاب «مقالة في الفعل العربي.. قراءة تأصيلية في العلاقة بين نسق الخطاب الإسلامي والمنطق الضمني للغة العربية» (طبعة أولى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1991، وطبعة ثانية عن اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية بالإسكندرية عام 2002)، و«معقول اللامعقول في الوعي الجمعي العربي» (دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة عام 2002)، «موسوعة الحكايات والأساطير والأمثال الشعبية الموريتانية» (ثلاث مجلدات، تأليف مشترك، منشورات المعهد التربوي الوطني عام 1995)، «من شعراء موريتانيا» (منشورات وزارة الثقافة الموريتانية 2008)، تحقيق كتاب «تذريب الأذهان» لمحمد محمود ولد عبد الفتاح (نواكشوط عام 1999)، «معلمة القسم الخامس» (رواية قصيرة، نواكشوط عام 1996)، «مولد الوهم» (مجموعة قصصية، نواكشوط عام 1996)، «هجرة الظلال» (رواية، دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، طبعتا 2013 و2015). وهذا إلى جانب عشرات البحوث المنشورة في صحف ومجلات متخصصة، مثل: «الحسانية.. القوم واللسان والثقافة»، «الإسلام والحضارات الأخرى.. صدام أم حوار»، «الدولة العربية الحديثة بين إشكاليات القيام وعوائق التشكل»، «إشكالية الإبداع في الشعر الشنقيطي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر»، «الشعر الحساني.. البنية والتاريخ»، «إشكاليات إصلاح التعليم في موريتانيا»، «الموسيقى الموريتانية.. الشكل والمصطلح والوظيفة»، «المتخيل في الحكاية الموريتانية.. دراسة لسانية أنتروبولوجية رمزية»، «من أجل حوار صريح حول إصلاح التعليم في موريتانيا»، «هوامش على تراث البطولة في الغرب الصحراوي»، «من روائع الأساطير الموريتانية»، «التشاكل في الوعي الثقافي العربي من خلال الحكاية الشعبية».. إلخ.

 

*******

 

ومن خلال سلسلة مقالات مطولة على صفحات يومية «الشعب» في عقد الثمانينيات، كان محمدو ولد أحظانا أول باحث موريتاني يفتح مغاليق الموسيقى (أزوان) والشعر الشعبي (لغنه)، ويستكنه الأبعادَ الاجتماعية والثقافية الثاوية لممارسات وطقوس شعبية تقليدية مثل "لكزانه" و"لودع" ولعبة "السيك".. وقد لاحظ مبكراً أن الموسيقى الموريتانية (أزوان) من الحقول الثقافية التي تصعب دراستها وامتلاك مفاتيح فهمها على باحث غير ملم بلغة «اكلام ازناكه». وهذا فضلا عن دراساته اللاحقة حول المغيَّب والمتخيَّل في الثقافة الموريتانية. 

ولعلّ بعضنا يتذكر أيضاً سلسلةَ مقالاته التأصيلية القيّمة الأخرى، خلال الأزمة مع السنغال عام 1989، والمنشورة هي كذلك على صفحات يومية «الشعب»، حول تاريخ «نهر صنهاجه» بأوجهه البيئية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، معزِّزاً بالمعطيات الاجتماعية والثقافية حقَّنا الثابت في هذا النهر.

وللدكتور محمدو ولد أحظانا مشروع فكري طَموحٌ وقويٌ في مرتكزاته ومراميه، حول ماهية العقل العربي الإسلامي وطبيعته، يعمل على إكماله وبلورة مرتكزاته ومقولاته النظرية منذ ربع قرن. وكان كتابه «مقالة في الفعل.. منطق اللغة العربية ونسق الخطاب الإسلامي»، النواة الصلبة لهذا المشروع، والذي رفده لاحقاً بعشرات المقالات والدراسات والأبحاث. 

إنه مثقف متعدد الأبعاد ومتنوع المواهب، ومفكر رصين يعرف تماماً ما يريد، لا يستفزه الإطراء ولا تستخفه الأضواء ولا يكترث بالتجاهل والتهميش، وقد حصل وطنياً على وسام الشرف الوطني من الدرجة الأولى في خدمة الفكر والثقافة والأدب عام 2013، كما نال وسام الاستحقاق الوطني بدرجة فارس عام 2022، وها قد كرمته إمارة الشارقة كمثقف ومفكر وأديب مبدع.. كل ذلك عرفاناً واعترافاً بعطائه الأدبي والفكري.