نواكشوط وموسكو.. علاقات لم تتميز في الغالب/ الرئيس الراحل المختار ولد داداه

ولم تسلم العلاقات الموريتانية السوفيتية، بدورها، أبدا من الغيوم. فقد سبق وأن تحدثت عن الفيتو السوفيتي ضد دخول موريتانيا في الأمم المتحدة، والمفارقة الغريبة المتمثلة في برقية الاعتراف والتهنئة المطولة التي وجه إلي السيد خروتشوف Khrouchtchev في 28 نوفمبر 1960.
فبعد دخولنا الأمم المتحدة، سعينا إلى الاتصال بالسوفيات على الرغم من مشاعرنا تجاههم، إذ كان علينا أن ننطلق من كون اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية تمثل القوة الثانية في العالم. وعلى الرغم من مآربها المغرضة بطبيعة الحال، فقد لعبت دوراً حاسمًا في تصفية الاستعمار في دول العالم الثالث. وبالفعل، فإنه لولا دعمها المتعدد الأوجه لحركات التحرر عبر العالم لما قبل الغرب الاستعماري والإمبريالي حتى النخاع، المتغطرس والمهيمن، إزالة الاستعمار من إمبراطورياته الاستعمارية في إفريقيا وآسيا. ولا شك أن الاتحاد السوفياتي، المتسم غالبا بالديماغوجية والميكافلية، لا يساندنا لسواد عيوننا، بل إن تلك المساندة تتماشى بالدرجة الأولى مع مصالحه الخاصة وفق منظوره الجدلي للأشياء. ونعرف من خلال التجربة أنه يأخذ دومًا ثمن تلك المساندة غاليا، سواء على الصعيد المادي أو الإيديولوجي. وبما أنه لم يكن له يوما ما مستعمرات في إفريقيا، فإنه يظهر لنا، نحن مستعمَري الغرب، بوصفه حليفنا الموضوعي. وكان لهذا النوع من الموضوعات وقع في نفوسنا حتى الذين منا لديهم حساسية شديدة من الشيوعية الملحدة مثلي.
وعودة إلى الحديث عن العلاقات الثنائية الموريتانية السوفياتية، نقول إننا لاحظنا مبكرًا اهتمام دولة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ببلادنا، على الرغم من ضعفها وفقرها، لسببين اثنين. أولهما أنها تأخذ في الحسبان، في إطار سياستها الإفريقية العامة، موقع موريتانيا الاستراتيجي بوصفها همزة وصل بين شطري إفريقيا الأسود والأبيض الذين لعبت بينهما على الدوام دورا ثقافيا لا جدال فيه، ولاسيما في إفريقيا الغربية. أما ثاني الأسباب فهو اقتصادي، إذ أن ثروتنا السمكية تهمها كثيرًا. ولهذا السبب استجابت لرغبتنا في التعاون. ولذا لم يجد سفيرنا في باريس، في سبتمبر 1963، أي صعوبة في الحصول على تأشيرة للتوجه إلى موسكو حيث وقع على انضمامنا إلى معاهدتها الخاصة بوقف التجارب النووية في الجو. وتلقيت في فبراير 1964 من خروتشوف رسالة تعميمية مطولة تتعلق بمشروع معاهدة تقضى بالتخلي عن استخدام القوة لحل النزاعات الإقليمية. ورددت عليه بالإيجاب في 5 من مارس الموالي. وأقامت بعثة مساع حميدة موريتانية برئاسة سيدي محمد الديين، وزير الشؤون الخارجية وقتها، بالاتحاد السوفياتي فيما بين 6 إلى 13 يوليو من العام نفسه. واستقبلت البعثة من قبل السيد خروتشوف في جو ودي. وقرر الطرفان إقامة علاقات ديبلوماسية على مستوى السفراء. وقدم لى السفير السوفياتي المقيم في نواكشوط أوراق اعتماده في 26 مايو 1965. وفي نهاية السنة نفسها، أقامت بعثة سوفيتية متعددة الاختصاصات في بلادنا طيلة سبعة أسابيع. وقد زارت مختلف مناطق بلادنا «لدراسة مختلف المجالات التي يمكن أن يقوم فيها تعاون ثنائي» حسب ما صرح لي به السفير السوفياتي. ولم تشفع زيارة هذه البعثة بأي اقتراح عملي للمساعدة من جانب موسكو. وفضلا عن ذلك، فإن تكاليف مقام البعثة الطويل قد تحملتها خزينة الدولة الموريتانية، خلافًا لما به العمل في التعاون مع البلدان الأخرى.
وعلى الرغم من خيبة أملنا، فقد استجبنا لرغبة المسؤولين السوفييت في مضاعفة تبادل البعثات على شتى المستويات الحزبية، والحكومية، والبرلمانية، والنقابية، والشبابية. وقد تم استدعاء وفود من حزبينا ونقابتينا وشبابينا، إما بمناسبة انعقاد مؤتمراتها، أو للقيام بزيارة استطلاع. وفي السنة الموالية قامت بعثة تجارية سوفيتية بزيارة بلادنا تم على إثرها توقيع اتفاق بالأحرف الأولى، ثم وقع ذلك الاتفاق في موسكو من قبل وزيرنا للشؤون الخارجية بمناسبة زيارته للاتحاد السوفيتي في الفترة ما بين 11 إلى 20 أكتوبر 1966.
وقد دُعيت شخصياً إلى موسكو منذ 1969، إلا أنني لم أذهب إليها في نهاية الأمر. فلماذا؟ لأنني لا أريد أن أتوجه إليها ما لم يلتزم أصحاب الدعوة بأن ينجزوا لنا مشاريع اقتصادية أو اجتماعية هامة. وعندما التزموا لفظيًا في 1974 بأنهم سيقدمون لنا عونا معتبرًا بمناسبة زيارتي الرسمية للاتحاد السوفياتي، فإن تلك الزيارة لم تتم لأسباب بروتوكولية. وتعود تلك الأسباب إلى التصرفات غير الديبلوماسية للسفير السوفياتي في الجمهورية الإسلامية الموريتانية السيد رحماتوف Rahmatov. فهو عضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، وكان رئيسا لحكومة جمهورية أوزبكستان Ouzbékistan الإسلامية الاتحادية. وعلى هذا الأساس فهو نائب سابق لرئيس السوفيات الأعلى. وقد ظل لسنوات عدد سفيرًا في صنعاء، ويتبجح «… بأنه كان يدخل في أي ساعة من النهار أو من الليل إلى مكتب أو منزل رئيس الدولة…» اليمنية. ويكاد يقول إنه كان يحكم اليمن بواسطة رئيس جمهوريته! واحتفظ من مقامه في اليمن، إن لم يكن ذلك ديدنه أصلاً، بسلوك مزعج أليف يصل حد السوقية. وحين رأى منه مدير تشريفاتنا ما رأي، أوضح له أنه في نواكشوط لا يعدو كونه سفيرًا من بين السفراء، وأن عليه بالتالي أن يخضع لنص وروح بروتكولنا. وكان السيد رحماتوف يذكر على الدوام بأنه رجل سياسي قبل أن يكون ديبلوماسيا، ويتباهى بأن لديه نفوذا كبيرًا في موسكو وأن اسمه أشهر من السمسم…! وبما أنه قليل التواضع، فقد كان يجاهر بأن تعيينه في نواكشوط يجسد الأهمية الكبرى التي توليها حكومته للعلاقات مع الجمهورية الإسلامية الموريتانية، تلك العلاقات التي تعهد بتفعيلها وتنويعها إلى أقصى حد. ولهذا الغرض، تحرك كثيرًا للمطالبة بتنفيذ مشروع زيارتي الرسمية لموسكو التي يقول إنه يريد تنظيمها بسلطة عارف مقتدر…
وقبل أن أقبل بتحديد موعد هذا السفر، أوضحت له أنني لا أذهب إلى بلاده – التي أطريتها أيما إطراء – من أجل السياحة، بل من أجل الحصول على تمويل مشاريع تنموية تحتاج إليها الجمهورية الإسلامية الموريتانية كثيرًا. فأكد لي أن حكومته ستنتهز فرصة زيارتي «لإعطائها ما تستحق من إكبار…». وأوضح أن حكومته مستعدة من الآن لتزويدنا بالأسلحة بما فيها الطائرات الحربية. فأوضحت له أن بلادي ليست بحاجة إلى الأسلحة وإنما إلى الطرق والسدود والآبار والمدارس والمستوصفات، وإلى وحدات بحرية لخفر السواحل. وإذا ما سلمت لنا تلك الوحدات، فإننا سنطالب بتكوين طاقم موريتاني، ووجود مساعدة فنية لبعض الوقت. وأعطاني على الفور موافقته، مذكرًا إياي أن حكومته ستتقدم بدورها بمطالب في مجال الصيد. وقد انتهزت الفرصة لتذكيره بطريقة «ديبلوماسية» أن بواخر الصيد السوفياتية لا تحترم سيادتنا البحرية وتصطاد بطريقة غير شرعية في مياهنا الإقليمية. وهذا ما نفاه مؤكدا «… أنه إذا كانت هناك حالات نادرة، فإن الأمر لا يمكن أن يكون سوى خطأ في الملاحة…»! وبحكم مقتضيات اللباقة لم ألح على الموضوع.
وعليه، فإن النقاشات بشأن زيارتي قد بدأت في نواكشوط وفي موسكو. واحترازا مني، طلبت من حمدي أن يلزم محدثه بتوضيحات بروتكولية. فلم هذا التصرف الاحترازي؟ لقد مرَّ على مسامعي أن رؤساء دول العالم الثالث الذين يزورون موسكو، يتم استقبالهم، أحيانًا، بطريقة غير لائقة، ولا يعاملون على الدوام معاملة الند للند.
وبعد مناقشات، اتفق حمدي مع السفير رحمتوف على أنني بصفتي رئيس دولة وأمينا عاما لحزب الشعب الموريتاني، سأستقبل من قبل ثالوث برجنيف Brejnev، بودغورني Podgorny، وكوسيكَين Kossyguine. وعليه، فإن شروط السفر قد أصبحت جاهزة من الناحية النظرية. وأخذت طائرة تابعة للحكومة السوفياتية طريقها إلى نواكشوط. غير أننا في عشية اليوم المحدد لسفري من نواكشوط، قد أبلغنا سفيرنا في موسكو، سيدي بونه، الذي طلب منه بالمناسبة التحلي بأقصى ما يكون من اليقظة، أن بريجنيف مريض وغائب عن موسكو، وأن كوسيكَن في مكان آخر لم أعد أذكره، وأنني لن أستقبل إذن إلا من قبل السيد بودغورني. وقررت على الفور إلغاء سفري، وطلبت من حمدي ولد مكناس استدعاء السفير رحماتوف لإبلاغه قراري والتعبير له عن دهشتنا من الخفة التي تصرفت بها حكومته على الرغم مما اتفقنا عليه معا، أي السفير ووزير خارجيتنا، اللهم إلا إذا كان لم يشعر به حكومته أو لم يشأ إطلاعنا على نوايا هذه الأخيرة في محاولة لجعلنا أمام الأمر الواقع، معتقدًا أنني لن ألغي السفر على أية حال. لقد كان واهمًا إذا كانت تلك هي حساباته.
ومهما يكن من أمر، فإن إلغاء الزيارة بهذه الطريقة ومن جانب واحد قد صعقه على ما يبدو. فقد اختفي عن الأنظار في نواكشوط بعد ذلك بقليل دون أن يترك عنوانا أو يقوم بالتوديع، بل حتى دون أن يعتذر، وهو ما يشكل خرقا سافرًا للأعراف الديبلوماسية بهذا الخصوص…
وهناك حادث آخر في مسار العلاقات الموريتانية الروسية يستحق أن يذكر به وهو قضية اليوشين 18 Illyouchine. ففي أكتوبر 1966، وقع وان بران وزير الشؤون الخارجية وقتها عقد شراء طائرة اليوشين 18 لاستخدامها كطائرة قيادة. وكان ثمن الشراء أقل بكثير من الأثمان المعهودة في العالم الرأسمالي. غير أنه سيتضح فيما بعد أن تكاليف التسيير والصيانة باهظة جدا بفعل الشروط التي يطالب بها البائع. ولم ننتبه بدءًا إلى صرامة تلك الشروط لانعدام اليقظة لدينا. فتضمنت تلك الشروط وجود طاقم كبير جدًا يضم ضعف العدد اللازم يتعين أن يُوّفّر له السكن والتأثيث والسيارات بأكثر الطرق الممكنة «برجوازية»، إضافة إلى استحالة صيانة ومراجعة هذه الطائرة في أي مكان خارج اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية. ومن هنا كان لزاما على الطائرة وطاقمها أن يقيموا سنويا عدة أسابيع في الاتحاد السوفياتي. وتترتب على ذلك أعباء مالية يستحيل على ميزانيتنا المتواضعة تحملها، وفشلت كل محاولاتنا الديبلوماسية في تخفيضها ولو بروبل واحد! ولذا قررت في النهاية إلغاء العقد من جانب واحد وأن أعيد الطائرة وطاقمها إلى الحكومة السوفيتية بعد عدة سنوات من الاستخدام الباهظ التكاليف. ولم يرتح شركاؤنا للقرار، لكنهم «تحملوه» في النهاية.
وبعد فترة فتور في العلاقات ناجم عن إلغاء زيارتي من جانب واحد وإعادة الطائرة، حضر حزب الشعب الموريتاني مؤتمر الحزب الشيوعي في موسكو، واستأنفت الحكومة السوفياتية النقاشات المتعلقة بالتعاون في مجال الصيد. فقد جاء وزيرها للصيد، الذي يشغل هذا المنصب منذ ثلاثين سنة أي منذ عهد ستالين، إلى نواكشوط للتفاوض مع حكومتنا بشأن اتفاقية صيد. وكانت المفاوضات جد صعبة، إذ أن شركاءنا يريدون أن يحصلوا على أكبر قدر من الامتيازات وألا يعطوا مقابلها إلا القليل. وكاد عدم الاعتراف بسيادتنا على المياه الإقليمية لتيرس الغربية أن يحول دون توقيع الاتفاق. فقد كان مخاطبونا يودون حصر الاتفاق في المياه الإقليمية لحدودنا سنة 1960. أما نحن فقد رفضنا التمييز بين شطري مياهنا الإقليمية، فإما أن يشملها الاتفاق أو ألا يتم أصلا. وفي النهاية قبلوا ضمنيا برأينا، وتم توقيع الاتفاق. وأعتقد أن شركاءنا قد أعطوا التزامين مقابل الامتيازات التي منحت لهم. فقد التزموا، من جهة، بتزويدنا بسفينتين لحماية السواحل وتعهدوا بتكوين طاقمين موريتانيين لقيادتها، ومدنا بمساعدة فنية لفترة زمنية محددة. وبفترة وجيزة من تسلم تلك البواخر التي يجب أن تكون جديدة، لا حظنا أنها مستعملة! ومن باب الطرفة أن أول سفينة صيد تحتجزها إحدى هاتين السفينتين – بطاقمها الموريتاني وفنييها الروس – كانت سفينة سوفيتية!… كما التزم شركاؤنا ببناء وتجهيز مركز صيد جد عصري في نواذيبو. وكان على هذا المركز، الذي هو ملك للدولة الموريتانية، أن يُمكِّن من القيام بكل الأبحاث في مجال الصيد البحري، وبمشاركة باحثين سوفييت في نشاطات هذا المركز عندما يتم إنجازه. وعند انقلاب يوليو 1978، كان بناء هذا المركز قد بدأ. وقام الوزير السوفيتي للاقتصاد والصيد بزيارة جديدة لبلادنا في يونيو 1978 إلى جانب زيارته الأولى في مايو 1976.
أما مجال التعاون الوحيد الذي لا تبخل فيه حكومة موسكو، فهو مجال التكوين. ونعرف التأويل الذي يعطى في إفريقيا للسهولة التي يستجيب بها السوفييت لطلب تكوين إطارات الدول الفتية، إذا لم يكونوا هم مصدر الطلب أصلا. يقول البعض إن الأمر بالنسبة للمسؤولين في موسكو لا يعدو كونه تكوين شبان دعاة للشيوعية الروسية في العالم الثالث، إن لم نقل تلقينهم … وعلى أية حال، فإن التأهيل الفني للإطارات المكونة في الاتحاد السوفياتي قد طرح لنا في الغالب مشاكل. ويؤكد البعض أنه لا مجال للمقارنة بين مستوى تكوينهم مع مستوى زملائهم المكونين في بلدان العالم الرأسمالي. وكان هذا الوضع خطيرًا بالذات بالنسبة للأطباء الذين اضطرت وزارتنا للصحة بصفة محتشمة إلى تحسين خبرتهم قبل تحويلهم للعمل في المراكز الصحية. وحتى لا تُغضب المعنيين، عمدت وزارة الصحة إلى البحث عن اسم خاص لهذا «التكوين أو التدريب». ونسيت أن أشير إلى أن الاتحاد السوفياتي أمدنا بعدد من الأطباء تمكنوا إلى حد ما من التكيف مع ظروف بلادنا.
وبكلمة واحدة، فإنني لا أعرف كيف كان يجري التعاون السوفيتي وقتها مع بلدان العالم الثالث الأخرى‎، لكنه مع بلادنا لم يتميز لا بكيفه ولا بكمه. 

المصدر: مذكرات المختار ولد داداه/ «موريتانيا على درب التحديات»