محمد المختار ولد اباه.. رحم الله كلمات حبسها التواضع والنبل/ محمد المنى

سمعتُ المرحومَ الدكتور جمال ولد الحسن ذات مرة يقول مبتسماً في حالة تفكر وذهول: «رحم الله كلمات احتبست في صدر الدكتور محمد المختار ولد اباه»، واليوم نقول ونحن جميعاً في حالة حزن وتحسُّر وتسليم تام بقضاء الله تعالى: رحم الله الدكتور محمد المختار ولد اباه وتغمده برحمته ورضوانه وتقبله في الصالحين وأدخله أعلى عليين. 
وما من شك في أن رحيله يمثل خسارةً فادحةً للساحة الثقافية الموريتانية خاصةً والإسلامية عامةً، ليس فقط لأنه نفض الغبار مبكراً عن جانب مهم من مدونتنا الشعرية (كتابه القيم «الشعر والشعراء في موريتانيا»)، أو لأنه ألقى الضوء على قضايا نقدية مهمة في تاريخ اللغة العربية وآدابها في بلادنا، أو لأنه قدَّم إسهاماً قيماً حول تاريخ القراءات والدراسات القرآنية وتاريخ الفقه المالكي في البلاد وعلاقته بواقع سكانها في القرون الماضية، إلى جانب كتاباته الغنية حول التصوف وتاريخه.. ولكن أيضاً لأنه فتح البابَ ومهّدَ الطريقَ لأجيال من الباحثين جاؤوا من بعده كي يتطرقوا لهذه المسالك البحثية الغنية والمتنوعة، وإن ظلوا إلى الآن عالةً على طروحاته المبكرة في هذه الحقول وغيرها، يكررون ما قال ويلوكونه دون أن يستطيعوا الإتيان بالجديد. ضف إلى ذلك أن فقدان الدكتور محمد المختار ولد اباه في عام «نواكشوط عاصمةً للثقافة في العالم الإسلامي» يمثل خسارة مضاعفةً بالنظر إلى الدور الرسالي العظيم الذي أداه في التعريف ببلادنا وتقديمها للعالم الإسلامي كمركز إشعاع ثقافي ومعرفي، ممثلا السفارةَ الثقافية الشنقيطية أحسن تمثيل وأبهاه، سواء من خلال بحوثه ومحاضراته ولقاءاته الفكرية والثقافية والعلمية، أو من على المنابر الدولية معرِّفاً بالثقافة الشنقيطية وبخصوصيتها الأكبر متجسدةً في المحظرة كنظام تعليمي فريد من نوعه في العالم.
ولعل الفقيد من أبناء البلاد القلائل الذين جمعوا بين الدراسة في جامعات الغرب وبين الاهتمام في آن واحد بالحقول الثلاثة المذكورة أعلاه؛ أي الدراسات القرآنية والدراسات الفقهية والدراسات الأدبية. 
وقد أصدر العامَ الماضي مذكراتِه «رحلة مع الحياة»، والتي عرض فيها ذكريات حياته المليئة بالمحطات والمنعطفات، بدءاً من ميلاده وطفولته في بادية بوتلميت ثم التحاقه بالمدرسة الفرنسية، وصولا إلى تقلده مواقع المسؤولية في المنظمات الدولية، مروراً بعضويته كوزير في أول حكومة وطنية في موريتانيا بعد نيلها الاستقلال الداخلي عام 1958. لكن صعوبة ميلاد مشروع الدولة وسط ظروف مضادة بالكامل جعلته يبدو مشروعاً مستحيل التحقق للكثيرين، ومنهم وزراء الحكومة نفسها، بما في ذلك الفقيدُ وآخرون على رأسهم الأمير محمد فال ولد عمير، حيث قرروا مغادرة البلاد ليلتحقوا جميعاً بالزعيم أحمدو ولد حرمه في المغرب. وهناك تولوا مسؤوليات ومناصب رسمية مهمة. 
وحول الظروف العصيبة التي كانت تعمل فيها حكومة الاستقلال الداخلي يقول الدكتور محمد المختار: «بعد ثلاثة أشهر على (تسلُّمي حقيبة التعليم) رأيتُ مع الأخ الدَّي ولد سيدي بابَ والأمير محمد فال ولد عمير -الذي كان مستشاراً ولم يكن في الحكومة- أنه يجب أن نضع حداً للتجربة الفاشلة. وقبل أن ننفِّذ القرارَ كان علينا أن نعمل على أن يَسير المختار ولد داداه معنا في نفس الاتجاه (...) حاولنا استدراجه معنا وقررنا أن نلتقي معه فرادى، لكن رده كان دعوتَنا إلى الانتظار؛ وأذكر أني سألتُه عن المدة الزمنية اللازمة، فتحدث عن خمسة عشرة سنة». وحين ندقق النظر في هذه المهلة الزمنية نلاحظ أنها الأفق الذي كان يخطط فيه المختار لما أسماه في حينه «الاستقلال الحقيقي» تمييزاً له عن «الاستقلال الممنوح». ففي عام 1974، أي بعد خمسة عشر عاماً من تاريخ اللقاء الذي يتحدث عنه الدكتور محمد المختار مع الرئيس المختار ولد داداه، كان صدور القرار التاريخي بتأميم شركة «مفيرما» وإنشاء الشركة الوطنية للمناجم (سنيم) لتحل محلَّها. وقبله كان الانضمام لعضوية الجامعة العربية في عام 1973 تتويجاً لخمسة عشر عاماً من الطَّرق المتواصل -بلا ملل ولا كلل- على أبواب «بيت العرب». وقبله كان إعلان الخروج من منطقة الفرنك الأفريقي وإنشاء العملة الوطنية (الأوقية) وتأسيس البنك المركزي الموريتاني عام 1972، ثم مراجعة الاتفاقيات الدفاعية مع فرنسا في عام 1973. وقبل ذلك كانت القرارات الثورية لمؤتمر «قضايا الاستقلال الثقافي» عام 1966 في مدينة العيون. وقبله كان قرار الاستغناء عن الدعم المالي الفرنسي في عام 1963 تكريساً لـ«استقلال إرادتنا السياسية» وفقاً لتعبير المختار نفسه.
وفي تلك الظروف كانت عودة محمد المختار مع بعض رفاقه إلى الوطن. وإن تعرّض للمساءلة والاعتقال، فسرعان ما تم استدعاؤه لتقلّد مسؤوليات تنفيذية وبرلمانية مهمة، وعلى وجه الخصوص فقد تم تكليفه ببناء منظومة تعليم موريتانية عصرية تستجيب لحاجات التنمية ومتطلباتها الملحة وتنسجم مع حقائق الهوية الحضارية الوطنية، ثم أصبح المدير المؤسس لمدرسة التعليم العليا التي رأت النور في عام 1970 كأول مؤسسة جامعية في البلاد، ليشرف بنفسه على تكوين الأجيال الأولى من الأساتذة والمفتشين التعليميين الموريتانيين. 
وفي الوقت ذاته كان محمد المختار يخوض مسارَه التعليمي الخاص به، فبعد حصوله على شهادة الليسانس في الآداب من المملكة المغربية أوائل الستينيات، نال شهادة «دكتوراه الجامعة» من جامعة السوربون الفرنسية في الأدب العربي عام 1969، ومن بعدها حصل على شهادة دكتوراه الدولة من الجامعة ذاتها حول تاريخ المذهب المالكي في موريتانيا. 
ومن مشاريع تطوير التعليم في موريتانيا وإدارة أهم مؤسساته، انتقل الدكتور محمد المختار ولد اباه إلى إدارة ملفات التربية والتعليم في المنظمات الدولية، وخاصة منظمة اليونسكو عام 1979 ثم نظمة المؤتمر الإسلامي عام 1984. وفي هذه الأخيرة تولَّى عدة مناصب إدارية وأكاديمية وثقافية، كان آخرها رئاسته الجامعة الإسلامية في النيجر. ومن واقع تجربته المحلية والدولية الثرية في مجال التربية والتعليم، ألّف الدكتور محمد المختار كتاباً قيماً نشرته «الايسيسكو» تحت عنوان «التربية الاسلامية بين القديم والحديث» يقترح فيه نظاماً مدرسياً مبتكراً يسمح باختصار المدةَ الزمنيةَ لتكوين الطلبة إلي أربعة عشر عاماً فقط، يتخرج خلالها الطالبُ طبيباً أو مهندساً أو خبيراً في العلوم الانسانية أو أستاذاً جامعياً.
وإلى ذلك فقد نشر الفقيد ترجمتَه لمعاني القرءان الكريم إلى اللغة الفرنسية، والتي يراها المختصون أجودَ الترجمات الموجودة حالياً وأفضلها. هذا علاوة على مؤلفاته وبحوثه الكثيرة حول تاريخ الشعر والنحو والفقه والسيرة النبوية والدراسات القرآنية. وكان الدكتور محمد المختار ولد اباه عضواً في عدة هيئات علمية وأكاديمية، مثل مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ودار الحديث الحسنية، ومؤسسة محمد السادس لعلماء إفريقيا.. كما كان أول رئيس لمجلس جوائز شنقيط التي أنشأتها الدولة الموريتانية أواخر التسعينيات لتشجيع البحث العلمي والإبداع الفني والمحافظة على التراث الإسلامي، واتسمت إدارته لها بالشفافية والموضوعية والحياد، مما أعطاها مصداقيةً خاصة وقيمةً معنوية كبيرة في حينه. 
وأخيراً قرر الدكتور محمد المختار أن يتوّج مشوار كفاحه المعرفي والعلمي والإداري بإنشاء صرح أكاديمي باسم «جامعة شنقيط العصرية» في نواكشوط، والتي أصبحت أول جامعة أهلية عصرية في البلاد، بغيةَ سد ثغرة كبرى في مجال الدراسات العربية والإسلامية على مستوى مرحلتي الماجستير والدكتوراه. 
ورغم انشغاله بالسياسة في معناها الواسع وبالإدارة كمهام ومسؤوليات وخطط تطويرية، فإن الهمَّ الأول للدكتور محمد المختار ظل قضايا الشأن الثقافي والفكري والعلمي والأكاديمي.. وقد بقيت هذه القضايا تسكنه وتستحوذ على الحيز الأكبر من وقته واهتمامه، وظل يبحث فيها بلا كلل ولا ملل، ويكتب عنها بلغة الضاد الأصيلة، وأحياناً بلغة موليير الصقيلة. لقد كرَّس الفقيدُ حياتَه لخدمة وإنماء ثقافة بلده وأمته.. في تواضع وأدب وصمت، بلا تبجح ولا تفاخر ولا تنطّع.. حتى ترحَّم المرحوم الدكتور جمال ولد الحسن على كلمات احتبست في صدره، يمنعه الحياء والتواضع والإيثار والتعالي النبيل من الجهر أو البوح بها لغيره!