وانتهت رحلة محمد المختار ولد اباه الجميلة/ محمد الأمين ولد محمودي

وانتهت رحلة محمد المختار ولد اباه الجميلة في وقتها الذي تحدد لها منذ الأزل،وبجمال تلك الرحلة كان جمال النهاية،فلم يستند الفتى الوسيم خلالها على أي شخص حتى وهو يدخل المستشفى بمنتهى وسامته في يومه الأخير ..هذا بالتأكيد ماكان يتمناه بلاشك،فمحمد المختار ولد اباه عاش حياة،كلها اعتماد على النفس وكلها شق لطريق ليس بالتقليدي..على جمله المؤدب بدأت الرحلة العلمية التي قادت ابن المحظرة والمشيخة الى الضواحي القريبة بادئ الأمر،ثم بدأ الجمل يبتعد وئيدا وئيدا من مضارب العشيرة، لتتسع بابتعاده مدارك الراكب ومعارفه،عرف "باب" الشمال والجبال لاول مرة واكتشف الشرق بعد ذلك ليتعرف على ساكنة تلك الربوع الطيبة..بعد الرحلة التي قادته الى خارج موريتانيا بغرض الحج ثم بالتحصيل العلمي في السنغال،تحول الجمل الى طائرة حملت الفتى الحالم الى آفاق اوسع وعوالم ارفع،وحين عاد ليستقر محملا بمايسمى الشهادات عاد بنموذج شبه ورقي لطائرة لم يقبل بركوبها غيره،حيث كانت تهبط كالأرجوحة في مدرج "المزمزمة" غرب النباغية او في التاكلالت حيث الخؤولة والمقام والمحبة..في كل رحلاته كان منسوب المعارف يرتفع ويرتفع..لم تشغل السياسة ومناكفاتها الرجل عن التحصيل وبث العلم، فقد كان وراء كل مسعى نراه دنيويا جامعة تولد وكتاب يطبع ومحاضرة تنثر فيها المعارف كالدرر..السياسة عند الكثيرين هي فن الوصول الى السلطة وفن المحافظة عليها أما بالنسبة ل"باب" فهي فن الوصول الى التلاميذ وفن تعليمهم والبحث لهم عن أفضل المناهج لذلك التعليم..هناك في جامعة السربون العريقة لايعلم بالتأكيد اي من زملاء "باب" ان جلوس "ابن الديمانية" معهم لتسلم دكتوراة دولة كان نصرا مؤزرا على تحديات التاريخ واكراهات الجغرافيا واملاءات التقاليد..لاشيئ يحدث بالصدفة مطلقا، وماحياة الرجل الا خير مثال على ان الصدفة كلمة عامية نغطي بها جهلنا للأسباب،فعلاقته بالجمل أخرجته الى العالم،وارغامه للطالب عبدو ضيوف مثلا على التحامل على المرض حتى لايخسر الباكلوريا كانت لتنظيم وترتيب خطوات الغلام السنغالي نحو المجد والسياسة والصيت،وماطيرانه دون دليل في ارض العقل وسماء الجنوب المكفهرة الا بعض تجليات العناية التي لاتفترض الصدفة ولاتكترث لها..محمد المختار عاش للعلم وبالعلم فكتب وألف وانتقد وأثرى المكتبة الاسلامية والغربية وعلم الآخرين كلام الله العظيم بترجمة معانيه ترجمة اعتبرت الأفضل في العالم،اذ استنطق فيها روح الكلِم القرآني وحدّث المعنى واستطاع بأعجوبة تقريب الاعجاز اللغوي من نظيره في لغة أخرى ودون تأثير على النص الأصلي المقدس..لن أمر على المناصب ولا على الوظائف التي تقلدها الرجل، ولا على الصيت الكبير،فكلنا سواء في معلومات تلك الرحلة وحول تفاصيلها لكنني أقف قليلا عند ليلة من ليالي أحد مقاهي انواكشوط،حيث نتوقع مرور كل انسان من ذلك المكان الا "باب"،لكنه فعلا مر من هناك،فقد كنت جالسا كالعادة مع جمع من المتبطلين حين ترجل العلامة التسعيني من سيارته،ودخل بخطواته الأنيقة صيدلية "كينيدي"،فلم يكن مني الا الاستغراب: كيف لباب ان يخرج لجلب غرض مهما كان!!،لكن الاجابة جاءت من المرافق الذي قال لي: "باب يصر بنفسه على شراء أدوية زوجته ورفيقة دربه "أمن"،ولايقبل لأي كان القيام بهذه المهمة نيابة عنه،اذ يحقق فيها مع الصيدلي ويقارن الدواء بالذي أخذه سابقا،بعد التأكد من تاريخ الصلاحية"..السيدة الفاضلة -التي تزوجت فعلا-ستتلقى ذلك الحب والاهتمام حتى آخر أيام حياتها المباركة رحمها الله..ثم سأقف عند آخر نشاط قام به الخال والوالد المفخرة، وكان يوم الجمعة الماضي حين أشرف على جلسة من جلسات كرسي القرآن في جامعته،مر القراء تباعا من أمامه، ثم قدم ملاحظاته بصوت بدا انه آخر مايفضل ان يتركه للاعلام والناس والطلبة..اما عن وفاته فكانت زيارة قصيرة للمستشفى،انتهت برحيله بعد ان كتب قبل مدة يعزي في نفسه ويعتذر عن مكنونات لانعلمها ويعتبرها أخطاءً،ثم أسدل الستائر وذهب الى حيث ركب جمله لأول مرة حيث لم يخرج اصلا من مضارب العشيرة الا لزيادة الزاد لرحلته الأخيرة هذه،أما عني فسأظل ابحث بين جمال هذه الأرض عن جمل موطأ الأكناف، مهذب، لايخالف صاحبه، ولايفرض عليه سبيلا غير مايبتغيه،فلابد انه من سلالة جمل بداية الرحلة ذاك، ولابد ان يركبه أحد ابنائي باذن الله، وساعتها فقط سأطمئن على انهم لن يضلوا..الضال من سلك سبيلا لايؤدي الى غايته وجمل كجمل "باب" يعرف الغاية والوسيلة ومنتهى الرحلة ولابد ان في سلالته من يعرف أيضا..التعازي ارسلها للأمة وللعلماء ولكل انسان قرر تشكيل نفسه بنفسه..رحمه الله وهو القائل:

 

وأمام الظروف فالذكر ذخري وملاذي إذا يخفُّ القطين

ذاك أني مستمسك بالمثاني وهي حبل من المتين متين..

 

وغفر لنا وألهمنا سبيله ومنتهاه.