لا مناخ للاستثمار مع «مسؤول كومسيوهات» / محمد المنى

قبل حوالي خمسة عشر عاما من الآن، زرت إحدى سفاراتنا في الخارج لتصديق مستند مدني، وقبل الانصراف من بناية السفارة صعدت إلى طابقها العلوي لإلقاء السلام على صديقي السفير الذي أكن له الكثير من الحب. طرقت باب مكتبه ودخلت، وبعد تبادل التحية والسؤال الاعتيادي المتبادل حول الأحوال والعمل والأهل، بادرني قائلا: لقد جئتني وأنا عائد لتوي من اجتماع مهم وناجح للغاية، تحدثتُ خلاله إلى عدد من المستثمرين ورجال الأعمال وأقنعتهم بالاستثمار في بلادنا وبالشراكة مع نظرائهم الموريتانيين. ثم أشعل سعادةُ السفير شاشةَ حاسوبه الشخصي، وقال لي:

انظر، لقد أطلعتهم على فرص الاستثمار الكثيرة وإمكانياته الواعدة في بلادنا، وأريتهم هذه المَشاهد من مناجمنا وثرواتنا المعدنية الكبيرة في الشمال، ومن سهولنا الزراعية الشاسعة في الجنوب، ومن إمكاناتنا الرعوية الحيوانية الهائلة في الشرق، ومن شاطئنا الطويل الغني بالأسماك في الغرب.. وقد تفاجؤوا بكل هذا وأظهروا رغبة وحماساً غير عاديين للاستثمار وإنشاء الشركات والمصانع في بلادنا. 

  
 كان صديقي السفير صادقاً ومقتنعاً بكل تفاصيل العرض الذي يقدمه حول خطته الذكية لجذب الاستثمارات الضخمة إلى بلادنا من خلال بعض الصور على جهاز حاسوبه الشخصي. وقد هممت أن أقول له: لكن يا سعادة السفير، إن رأس المال أذكى وأكثر حذرا من أن يستدرجه أحد بمجرد الكلام والصور؛ فهو يبحث عن ضمانات تعرفها الدول الجادة في جذبه، ولا يمكنه المجازفة بالذهاب إلى أي مكان دون أن يطمئن إلى توفره على تلك الضمانات المعروفة؛ مثل الاستقرار الأمني والسياسي، والحد الأدنى من المؤسسية واستقلال القضاء ونزاهته، ومستوى معقولا من البنى التحتية (الطرق والمطارات والموانئ)، وكفاءة في الإمدادات الأساسية على مدار الوقت (الماء والكهرباء والهاتف والإنترنت)، علاوة على الخدمات اللوجستية والمصرفية والترفيهية المطلوبة لمجتمع المال والأعمال في كل أنحاء العالم. إذا ما وفرتم هذه الشروط والظروف الضرورية، فسيأتي المستثمرون وأصحاب رؤوس الأموال الأجانب إليكم في عقر داركم طالبين راغبين في نيل فرص استثمارية في جميع المجالات، دون ما حاجة للركض خلفهم والإلحاح شهوراً في طلب اللقاء بهم، كي يجاملوكم بإظهار الإعجاب حيال صور على حاسوب شخصي!

لقد هممت أن أقول ذلك (أو ما في معناه) للسفير، لكني بالطبع لم أقله، إذ لا أريد النيل من همته أو التقليل من حماسه، وإن تواردت على ذهني في تلك اللحظات قصص لأجانب كُثر غامروا باستثمار أموالهم في بلادنا فكان مآل مغامراتهم خسائر وخيبات ما فتئوا يذكرونها في كل موقف ومجلس. 

 ينبغي أن نصارح أنفسنا بالحقيقة المرة: لابد قبل كل محاولة لجذب الاسثتمار الأجنبي، أو التحدث عن بيئة الاستثمار في بلادنا وما تقدمه للمستثمرين من فرص، من معالجة ذلك الثلاثي الخطير المعشعش في واقعنا أولا، ألا وهو الفساد والفوضى والفشل.. فبدون تلك المعالجة يتعذر استقطاب الاستثمارات وجذب رؤوس الأموال الأجنبية اللازمة لأي نهضة تنموية في ظل واقع العولمة المطْبِق على كوكب الأرض. لكن قبل ذلك وبعده يتعين علينا التخلص من «مسؤول كومسيهات» الذي طالما تسبب هو أيضاً في نفور الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية وهروبها من بلادنا، علاوةً على دوره الراسخ في متلازمة الفساد والفوضى والفشل. 

 موجبه المجلس الأعلى لتحسين مناخ الاستثمار الذي تم تشكيله مؤخرا، ويضم 28 عضوا، لكي ينضاف على الأرجح إلى عشرات المجالس والهيئات والأجهزة والمؤسسات والسلط والآليات الأخرى.. والتي تكلف خزينة الدولة مليارات الأوقية سنويا، وليس لها بالمقابل أي دور أو إنجاز، اللهم إلا إذا كان ضمان الولاء السياسي لرؤسائها وأعضائها، ومن ورائهم الحواضن الاجتماعية التقليدية ذات الوزن الانتخابي المؤثر!