تساؤلات حول الدليل الأمين/ د.يعقوب بن اليدالي

 

منذ أن ألمح *الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم* *لأبي بكر الصديق* رضي الله عنه باحتمال أن يهاجرا معا، و ذو الخلال يجهز ويخطط - طيلة أربعة أشهر- لتلك الرحلة الشاقة الشيقة، موظفاً ما اكتسبه من التجارب في أسفاره مع قوافل الإيلاف، فاشترى راحلتين قد سرى النِّيُّ فيهما بالقدر الذى سيجنبهما الإنضاء طيلة السفر، ووزع أدوار البطولة بين شباب من أهل بيته، فدرب ابنه عبد الله على طرق الحصول على المعلومات من خلال التنصت للأحاديث التى يتجاذبها الملأ في أندية و أفنية الحرم. حيث ستكون مهمته الأساسية هي قياس مستوى ردة فعل قريش على قرار الهجرة و جلب أكبر قدر من المعلومات عن عمليات المطاردة ومكونات فرق الطلب و الطرق التي ستسلكها، كما طلب من ابنته *أسماء* توفير جميع المستلزمات اللوجيستية الضرورية للرحلة وجلبها ليلاً إلى غار ثور الذى يبعد أربع كيلومترات عن الحرم.

أما *عامر بن فهيرة* فقد كلف بمهام متعددة، حيث سيقوم برعي غنمه نهاراً في سفح جبل ثور وبعد حلول الظلام يجلب اللبن إلى الغار، و يعود مباشرة إلى مكة ليسمر مع الرعاة ويتحسس الأخبار التي سمعها السوقة في مجالس السادة، ثم يباكر بغنمه إلى بطحة قريش ليمحو آثار خطى عبد الله بن أبي بكر الذي يذهب متخفياً إلى الغار ليطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، في الليل على ما وعته أذناه في النهار،  كما لعبت أمنا *عائشة* – رغم صغر سنها- دوراً هاماً في هذه المهمة النبيلة حيث ضبطت تفاصيل الهجرة بدقة ووصلتنا عنها عبرصحيح البخاري.

ونظراً لدرجة الغليان و الاحتقان السائدة آنذاك في المجتمع المكي، فقد قرر المهاجران أن يسافرا عبر طريق ساحلية غير معهودة ليسلما من خطر ملاحقة مرتزقة العرب، ولكي يتم ذلك فلا بد لهما من التعاقد مع دليلٍ أمينٍ خرِّيتٍ ماهر بالهداية في الصحراء.

وقع اختيارهما على رجل من بني الدئل أهدى من القطا، قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل، يدعى *عبد الله بن أريقط*، فأمناه -رغم أنه على دين قومه- ودفعا إليه الراحلتين ليرعاهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال .

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته ليلة الخميس 26 صفر تاركاً *علياً بن أبى طالب* كرم الله وجهه في فراشه ملتحفاً ببرده الحضرمي الأخضر، و سلك طريق اليمن حتى وصل إلى بئر ميمون، حيث وجد أبا بكر في انتظاره فاتجها مباشرة صوب غار ثور، و كمَنَا فيه ثلاث ليال هي الجمعة والسبت والأحد.

جاء عبد الله بن الأريقط في الموعد المحدد، ووجد المهاجريْن بانتظاره و برفقتهما عامر بن فهيرة، وذلك بعد أن أضلت الحمامة والعنكبوت عصابات الطلب المكية التي تقصت أثرهما إلى الغار، طمعاً فى الجائزة السنية المرصودة لمن يبلغ عنهما (مائة من الإبل لكل واحد منهما).

فالصدق في الغار والصديق لم يرما *** وهم يقولون ما في الغار من أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على *** خـير البرية لم تنسج ولم تحم
وقاية الله أغنت عن مضاعفة *** من الدروع وعن عال من الأطم

انطلق السفر المبارك صبيحة الاثنين غرة ربيع الأول الموافق 16 سبتمبر 622 ميلادية يتبع إرشادات الدليل المحترف، فسلك بهما أسفل مكة، ثم مضى على الساحل حتى عارض الطريق أسفل عُسفان، ثم سلك أسفل أمَجٍ ، ثم استجاز حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قُـدَيْدًا، حيث مرَّا على خيمة أم معبد عند المشلل على بعد 130 كيلومتر من مكة، ثم سلك بهما الخرَّار، ثم ثنية المرَتْ، ثم سلك لِقْفاً ثم أجاز مَدلجة لِقف، ثم استبطن مدلجة مجاج، ثم سلك مذجح مجاح ثم تبطن مذجح من ذي الغضوين، ثم بطن ذي كشر، ثم أخذ الجداجد ، ثم الأجرد ثم سلك ذا سلم من بطن مَدلَجة تعهن ثم مر على العبابيد ثم أجاز الطاجة ثم هبط العرج ثم سلك ثنية الغائر حتى هبط بطن ريم حيث التقى الركب المبارك *بالزبير بن العوام* مع جمع من التجار قافلين من الشام فكساهم ثياباً بيضاً و أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتشوق أهل المدينة لمقدمه، ثم دخل الركب المبارك قباء على بني عمرو بن عوف ضحى الاثنين، لثمان ليال خلت من ربيع الأول. الموافق 23 سبتمبر سنة 622 . وقد رجع عبد الله بن الأريقط مباشرة إلى مكة بعدما نجح في أداء مهمته على أكمل وجه، و أوصل إلى عبد الله بن أبي بكر رغبة والده في التحاق أسرته به في أسرع وقت.

لا تسعفنا المصادر التاريخية بالكثير من أخبار الدليل الأمين عبد الله بن أريقط، و رغم ذلك فإنني أرى أن الرجل كان يمتلك حظاً نادراً من الأمانة جعله لا يعير أذناً لمروجي جائزة قريش التي كانت ستجعله من أثرياء العرب، خصوصاً أن قيمة الأتعاب التى تقاضاها لا تقارن بها. بل فضل احترام عهوده والوفاء بالتزاماته حتى مع مطلوبين هاربين لا تجمعه معهما لحمة الدين، وهو في سبيل ذلك يعرض نفسه لخطر انتقام قبيلة قوية وذات شأن وتربطه بها أواصر الحلف. ولا شك أن التصور الذي وضعه عبد الله بن أريقط لتنفيذ مسار الرحلة يشي بمهارته العالية في مجال التخطيط ومهنيته الراسخة في معرفة التضاريس والمسالك الوعرة وأهل مكة أدرى بشعابها كما يقولون.

وقد قمت ببحث سريع حول هذه الشخصية الغامضة فوجدت أن *الطبري* ذكر في تاريخه أنه يدعى عبد الله بن أرقد و أن أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، أما *ابن القيم* فقد نسبه في *زاد المعاد* إلى بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، والراجح في نسبه ما ورد في *صحيح البخاري* من أنه من بني عبدِ بن عديِّ بن الدئل بن بكر بن عبد مناة. ودُئِل بضم الدال وكسرالهمزة كبنية الفعل الثلاثي للمجهول وهي صيغة نادرة جداً في الأسماء العربية. 

أما دينه فقد أكد *ابن كثير في البداية والنهاية* أنه كان من الكفار و لا يعرف له إسلام، إلا أن الشيخ *ابن حجر العسقلاني* ذكره في القسم الأول من الصحابة وذلك يعني -حسب قاعدته- أنه من الصحابة فعلاً وليس من المخضرمين أو ممن له رؤية فقط أو من ذكر فيهم خطأ.

يقول *ابن حجر في الإصابة*:  (عبد الله بن أريقط و يقال أريقد بدل الطاء الليثي ثم الدِّئلي، دليل النبي صلى الله عليه وسلم و أبي بكر لما هاجرا، ثبت ذكره في الصحيح و أنه كان على دين قومه و لم أر من ذكره في الصحابة إلا الذهبي في التجريد، وقد جزم عبد الغني المقدسي في السيرة له بأنه لم يعرف له إسلام وتبعه النووي في تهذيب الأسماء).

وقد رجعت لترجمته في *تجريد الذهبي* الذي أحال عليه ابن حجر فوجدته أورده تحت رقم 3132 ولم يزد على سطر واحد قال فيه (... عبد الله بن أريقط الليثي و يقال الدئلي فالليث و الدئل أخوان)، ولم يرمز بعده بشيء مما يعني -حسب منهجيته- أنه زاده على أسد الغابة دون ذكر مصدره في ذلك.
والحاصل أن إيراد ابن حجر له في القسم الأول كان كافياً للجزم بصحبته لولا أنه أحال على الذهبي الذى لم يحل بدوره على أي مصدر آخر.

وقد ألحت علي في ختام هذه المقالة جملة من التساؤلات أردت أن أتقاسمها مع القراء بهدف إثراء الموضوع وهي:

- لماذا اختفى اسم ابن الأريقط من جميع الأحداث المكية والمدنية بعد الهجرة؟ ولماذ لم يتصل برسول الله عليه وسلم بعدما استقر في المدينة؟ 

- هل عاش ابن الأريقط حتى أدرك السنة التاسعة للهجرة؟ و إذا ثبت ذلك فإن القاعدة العامة تقضي باحتمال إسلامه لأنهم يعتبرون كل من أدرك تلك السنة من سكان الجزيرة العربية مسلماً؟ لكن لماذا لم يذكره ابن حجر في القسم الثالث من الإصابة الذي خصصه لتلك الفئة من الصحابة؟

- ما حقيقة صحبته التي ذكرها الذهبي في التجريد؟ أم أنها صحبة بدعوى العاطفة، حيث يؤكد بعض أهل السير أحياناً إسلام أشخاص قبل أن يكتمل لديهم الدليل على ذلك كأبي طالب وغيره.

- غياب ذكره في بعض مشاهد الهجرة: كحديث أم معبد، وقصة سراقة، يفهم منه أنه لم يكن ملازماً للرسول صلى الله عليه وسلم طيلة الطريق، فالاعتبارات الأمنية قد تتطلب منه أن يكون بعيداً عنهم خشية الطلب أو الرصد. 

- لا شك أن مهمة ابن الأريقط يغلب عليها الطابع الأمني، والغموض ربيب المهمات الأمنية، وربما لذلك شاء الله أن يظل الغموض يكتنف سيرة ابن الأريقط فلا تكاد كتب التراجم والسير تحسم موضوع إسلامه أو تشفي الغليل بشأن أخباره. 

- اسم الدليل أثار لديَّ العديد من التساؤلات فقد أطلق اسم عبدالله على العديد من الشخصيات العربية مثل عبد الله بن سعد الطائي والد حاتم، وعبدالله بن جدعان التيمي، وعبدالله بن عبد المطلب،  وقيل إن أبا بكر الصديق اسمه عبدالله، فهل يعني ذلك أن عبدالله بن أريقط من مواليد عام الفيل وأن عمره وقت الهجرة زاد على الخمسين، ونظراً لخطورة وصعوبة مهنته فمن المحتمل أن يكون مات قبل الفتح.