الاسترقاق و قضية الحراطين / محمد جميل منصور

 

كما وعدت سابقا هذا هو الموضوع الثاني من عناوين ثلاثة ذكرت أنني سأكتب عنها، رفعا للبس ومحاولة لتلمس طريق وسط بين مذهب التهوين ومنطق التهويل.
للأسف عرف المجتمع الموريتاني بكل مكوناته ظاهرة الرق، وتميزت في المكون العربي بتباين في الألوان وارتباط الرق باللون الأسود، وعرفت في عمومها سلوكا وممارسات مهينة للإنسان حاطة من كرامته، وكان كثير من الناس يعتقد أن الإسلام يقر هذه الظاهرة ويبرر كثيرا مما يقوم به الملاك التقليديون، ورغم قوانين المستعمر وما أعلنه من رفض الممارسة الاسترقاقية، فقد تواطأ مع الاستعباديين وخيب أي آمال في دعمه لمسار التحرر، وورثت الدولة الوطنية وضعا ناتجا عن التطورات السابقة، ولم تقدم في بدايتها جهدا ذابال للقضاء على ظاهرة الرق، ورغم الدستور وبعض التعميمات الصادرة عن وزير العدل فقد كان التسامح مع ممارسة الاسترقاق هو السلوك الغالب لمؤسسات الدولة الناشئة، وكان للكادحين قصب السبق في الطرح المناوئ للرق وتركوا تراثا أدبيا وسياسيا يؤكد ذلك، وتبعهم في ذلك معظم التيارات بتفاوت في الزمن والمستوى، وتميز البعثيون في هذا الصدد، وكان كراسهم المشهور "البعث والحراطين" إضافة حينها، ولكن النضال ضد العبودية سيشهد تطورا نوعيا مع تأسيس حركة "الحر" أشهرا قبل الإطاحة بالرئيس المختار ولد داداه رحمه الله، وهي الحركة التي اتخذت من النضال ضد العبودية، وترقية الحراطين أهم مرتكزاتها وأهدافها.
مع الزمن أصبح الموقف الرافض للممارسات الاسترقاقية سائدا في مختلف الأوساط السياسية والحقوقية، وتباينت مختلف الأطراف في مستوى التركيز ودرجة الأولوية.
على مستوى الحقل الفقهي وقطاع العلماء والأئمة، ساير علماء عديدون قرار الرئيس هيدالة بإلغاء الرق، ووجدوا له تخريجات فقهية لاتذهب بعيدا في فقه التحرير، وقد برز الشيخ محمد فاضل ولد محمد الأمين بمذكرته المتميزة التي مثلت وعيا متقدما على الفقهاء والتيار الإسلامي نفسه، ومع التطور الذي حصل في الموضوع، استمر تحفظ كثير من الفقهاء وندر أن تجد فتوى واضحة وصريحة وتخلو من التحفظ والتعميم والتقييد.
شهدت الساحة بروز منظمات وحركات تتخذ من القضية جوهر اهتمامها، ويختلف الناس في تقويمها والحكم عليها، من بينها نجدة العبيد التي اتسمت بالتخصصية ولزمت طابع المنظمة المدنية، ومنها حركة إيرا التي تأثرت بطابع رئيسها، وتداخل فيها السياسي مع الحقوقي على نحو مبالغ فيه، ومنها عناوين عديدة أخرى تبناها هذا الطرف أوذاك، ومال بعض المناضلين في هذا المسار إلى النضال التخصصي من بوابة بالغة الأثر(التعليم)، وهو ماتميزت فيه هيئة الساحل، وكان لبيت الحرية بصمته، ومثل ميثاق الحراطين خطوة متقدمة في هذا المسار وإن أثرت عليه التباينات وصراعات الزعامة.
على المستوى الرسمي كان التطور الأهم هو إجازة قانون تجريم الممارسات الاسترقاقية في عهد الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله رحمه الله، وبواسطة جمعية وطنية يقودها الرئيس مسعود ولد بلخير، ومع محاولات تطبيق هذا القانون، ومع خطوات لاحقة عليه، منها تجريم الرق دستوريا، وإنشاء محاكم مختصة للموضوع، فقد ظلت هناك ملاحظات على التنزيل وفعالية الأجهزة والإجراءات ذات الصلة.
وبين الفينة والأخرى يتجدد الحديث في قضية الرق في موريتانيا، بسبب حالة قيل إنه تم اكنشافها، أوبسبب تقرير أجنبي تناول القضية، أوبسبب تطورات سياسية تتعلق بالأطراف الأكثر طرحا للموضوع، ويعود نفس الاصطفاف بين مهون ومهول، ويضيع صوت الموضوعية والتوازن في جلبة لا اعتبار فيها إلا لمن كان حدي المقاربة والطرح.
ومحاولة لتلمس الطريق نحو طرح لايغريه التهويل ولا التهوين، أسجل الملاحظات التالية: 
1 - يشكل التأصيل الإسلامي للنضال ضد هذه الظاهرة وضد مخلفاتها أولوية ملحة، وذلك لسببين أولهما أن المجتمع الموريتاني لن يتفاعل مع نضال تحرري يخالف الإسلام أو يتحفظ منه، ثانيهما أن التبرير الإسلامي كان حاضرا تقليديا لاسترقاق الناس وسلبهم حرياتهم، ويحتاج الأمر إلى حملة تصريح لالبس فيها ولاتردد، يشترك فيها العلماء وأهل الرأي ومحرروا الفتاوى وخطباء المساجد.
2 - بين الإنكار والتضخيم، يلزم الإقرار بأن بقايا للظاهرة، وحالات استرقاق يخفيها ممارسوها غالبا مازالت موجودة، فلم تعد الظاهرة منتشرة ولاهي انتفت واختفت نهائيا، أما المخلفات فكثيرة ومتنوعة والأمر بجانبيه موجود في كل المكونات الوطنية، فلايناسب ولايستقيم التركيز فيه على مكونة واحدة دون المكونات الأخرى.
3 - لامناص من تفعيل القوانين والآليات المعتمدة في البلد على نحو لا تساهل فيه ولاشطط، ولنعلم أن وجود حالة أو مخالفة في هذا الصدد لايسيء إلى البلد ولاصورته أوسمعته، بل الذي يضر هو التستر عليها، وإضاعة الجهود في التبرير.
وهنا لابد من توضيح حق كل مواطن في حمايته وحماية حرمته، فلايكون عرضة لدعايات لم يكلف أصحابها أنفسهم القليل من التثبت والتحقق.
4 - لابد من تفعيل سياسة التمييز الإيجابي التي تهدف إلى مساعدة الحراطين وعموم ضحايا الاسترقاق للحاق ببقية المجتمع، وأبرز مجالين لهذه السياسة: التعليم والتأهيل ، والتوظيف والتعيين، على أن يظل معيار الكفاءة والصلاحية لازما، والتمثيل  يكمله ويعززه.
ويحكم سياسة التمييز الإيجابي هذه  جدية الإرادة والاستصحاب والاستحضار، لا التقنين والحصص المعروفة التي لاتزيد ولاتنقص.
5 - ليس جوهريا الحسم في الهوية الثقافية للحراطين، والانتماءات لاتفرض، ولكنهم مع ذلك بحكم التاريخ والثقافة واللسان جزء من المكون العربي، وغير ذلك تكلف، وتعرضهم للظلم والتهميش والاسترقاق لايخرجهم من هويتهم الثقافية.
وفضلت مصطلح المكون العربي على البيظان نظرا للإيحاءات الإقصائية والاستعلائية التي تصاحبه أحيانا، ولأنه مصطلح غير جامع في ذهنية كثيرين على الأقل.
6 - هناك لغة بالغة الإثارة والتحدي لاتنتزع حقا، ولاتنفع قضية، وتسهم في توتير الأجواء وتوسيع دائرة الخصوم والمتحفظين، وقد آن الأوان للإقلاع عنها، ولايمكن أن يصبح السعي للمكانة السياسية والحصول على دعم بعض مكونات الشارع سببا في استعمال هذه اللغة والإصرار عليها.
7 - هناك لغة بالغة الاستفزاز والإهانة لاتسكت خصما، ولاتخدم انسجاما، وينكر أصحابها حقائق التاريخ وقرائن الواقع، ويوزعون تهم العنصرية والشرائحية والانتقامية على كل من يطرح مظلمة، أويناصر مستضعفا، أوينكر منكرا، وقد آن الأوان للإقلاع عن هذه اللغة، واحترام مشاعر الناس وضحايا الظلم منهم بصفة خاصة.
بقي العنوان الثالث وهو عن المسألة الفئوية، لتدوينة قادمة بإذن الله.