ذكرياتي في المدرسة الأولى../ د. محمد فال ولد الحسن

نشأت في حي "ملكاش"، أصحو على ثغاء "جديان" أهل يركيت، وأستنشق دخان مخبزة أهل الصبّار، وقت الضحى، وأمسي على أذان المرحوم أنمراي ولد محمود، من المسجد الجنوبي .. مسجد ححام.
وبين ذاك وذاك .. أرتاد مدرستي الأولى .. المدرسة رقم 1 ..
تلك المدرسة التي تعلّقت بها قبل سن التمدرس، وكنت أحشر نفسي بين تلامذة الصف الأول، متأبطا كتابي "كتابك يا ولد" ..
وكلما شاهدني مديرها المهيب، السيد محمد ولد بوهم، صرخ في وجهي .. "إذهب إلى أهلك ليبحثوا لك عن "حكّامة" ..
وفي أحد الأيام، وبينما كان التلاميذ مصطفّين لصلاة العصر، والمدير من ورائهم يراقب حركاتهم وسكناتهم .. تحولت تلك الكلمات إلى صفعة ..
وفي السنة الموالية تحقّق الحلم، وأصبحت تلميذا رسميا ..
لكنه كان حلما منقوصا، فقد ألغي الكتاب الذي كنت أزدهي به على بقية التلاميذ (كتابك يا ولد) ليحل محله كتاب الشامل.
لقد صعب علي أن لا يحفل أحد بكتابي المليء بالصور والألوان ..
وأي معلم حظينا به ذلك العام .. إنه المرحوم الفاضل دداه ولد عبد الملك، والذي ظل يدرّسني حتى السنة الثالثة، وكان ذلك في المبنى الجنوبي المهدد بعاديات الدهر ..
ذات مرة سجّلني رئيس القسم من بين المشاغبين، فشرعت أصرخ من شدة الخوف، إلى أن حضر المعلم الفاضل، فهدّأ من روعي .. لكنه هدّد بأنني إذا شاغبت مرة أخرى، سيكتب إسمي بأصبعه على كفّه، كتابة لا تنمحي أبدا !
ولسوء حظي شاغبت مرة أخرى، ونفّذ وعيده، وكانت الطامة ..
فبعد إنتهاء الدوام، تعلّقت بكمّه وأنا أبكي وأتوسل بأن يمحو إسمي من كفه ..
فظل يمسح بسماحة لا نظير لها كفه بكفه ..
وبقيت مقتنعا بأن الإسم لم يزل مكتوبا إلى أن أقسم بأنه قد إنمحى !
لقد كان الرجل حليما عظيما مهيبا ومؤثرا في تلاميذه، ولا أزال أجد في نفسي بعضا من معالمه، في تعاملي مع تلاميذي ومع طلابي.
وفي السنة الرابعة، وفي نفس المبنى، حوّلت إلى مدرسة أبكاك، وكان معلّمنا السيد الفاضل محمذن ولد عمر، وكان للفصل ديكوره الخاص ..
صندوق حديدي مزركش بأهلة حمراء، له صرير صباحي مميز، لوحات، مساطر صفراء، دفاتر وكتب، وحبل أخضر، ودرّة عمرية، وأشياء أخرى.
وكان معلّمنا "متين اليد"، لا يضع درته عن كتفه، كثيف العطاء، حريصا على الوقت ..
ذات صباح قدّم لنا درسا في العقيدة، عن البعث وإخراج الناس من القبور ..
وأشفعه بدرس في العلوم، عن النحلة وما تفرزه ..
ثم طلب منا إدخال بعض الكلمات في جمل، وكان من بينها عبارة "أفرز"، فجمعت بين الدرسين وكتبت "يفرز الله الناس من قبورهم يوم القيامة" ..
ولما أتيته بالدفتر ليصححه، رأيته ولأول مرة يبتسم إبتسامة عريضة مشرقة، وحاول أن يفهمني أن عبارة أفرز، وإن دلّت على الإخراج، لكن لا يصح إسنادها إلى المولى عز وجل.
طبعا لم أفهم ذلك ..
وبعد سنوات .. وبعد أن أكملت كل مراحل دراستي في المذرذرة، ثم في جامعة ...
جمعني نقاش مع أحد المثقفين، ممن تعرفت عليهم في الغربة، أثناء تحضير الدكتوراه، وكان قوي الشعور بالإنتماء إلى جهته ..
وتشعّب الحديث، إلى أن بدأت أشعر بأن صاحبي بدأ يتعالى علي، ويدّعي بأنه بحكم الجهة أكثر عمقا، حضاريا وثقافيا من غيره ..
فسألته .. متى بنيّت المدرسة التي تخرّجت منها ؟
فأجاب .. بداية الثمانينات ..
فقلت له -ولم يكن يصدّق- .. أما مدرستي فقد بنيت منذ قرابة قرن من الزمان ..
عندها قطعت جهيزة قول كل خطيب.
لكن "جهيزة" اليوم بحاجة إلى كل الخطباء ليعرضوا قضيتها في محافلهم، قبل أن يصيبها ما أصاب ذلك السجن الذي تشرّف بأن نزل فيه ذات مرة العلامة والشاعر إمحمد ولد أحمد يوره، ثم تحولت لبناته بكل بساطة إلى أرضية لإحدى البقالات.