من ذكريات الضفة/ الحلقة الثانية

لقد كانت لنا في أحياء الصطاره بين حي "بتيك ول اميسه" وحي "أَدَوَا" ليال لا نبيعها بليالي دمشق المسروقة عن ريب الزمان المذكورة في الأبيات الذائعة الصيت :
وكانت في دمشق لنا ليال =سرقناهن عن ريب الزمان 
جعلناهن تاريخ الليالي= وعنوان المسرة والأمان
كما تقضت لنا بها أيام عذاب كأنما لمرابط امحمد بن أحمد يوره رحمه الله يعنيها بقوله :
خليلي مرا بي قليلا "بمشرك" =لعل هموم النفس يشفي مصابها
رعى الله أياما تولت "بمشرك" =وكان منانا مذ تولت إيابها
أظن بهاتيك المعاهد جملها =وأحسب فيها دعدها وربابها
وأيام ذي قار قواصردونها=وأيام حزوى ما أكلن "كعابها"
لقد دشن لنا أستاذنا وأخونا الفاضل الأديب الأريب محمد سالم بن سناد ناديا ثقافيا كنا نعشو إلى ضوئه كلما أثقلت كواهلنا أعباء الحياة وسئمنا رتابتها فنجد فيه قوت القلوب وغذاء النفوس وقد قيل قديما ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان وقد قلت في ذلك النادي :
شمر خليلي وعرج بي على نادي =أستاذنا المرتضى الندب ابن سناد
ناد به العلم مجلاة غوامضه= والشعر ما بين إنشاء وإنشاد
تلقى به بلبل الأشعار ذا طرب= يشدو على فنن بالشعر مياد
يرعى ذماما لحسان فخيمته=مرفوعة السمك فيه ذات أوتاد
يرتاده رائد الآداب من بعد=يا حبذا ذلك النادي لمرتاد
يمتاح منه معينا سلسلا شبما =مثل السلافة يشفي غلة الصادي
يعشو إليه إذا ما الهم أثقله=يروم ما فيه من نجح وإسعاد
أبقاه ربي زمانا بين أظهرنا=تبأى به في النوادي ضفة الوادي
لقد كان ابن سناد يطربنا بإنشائه وإنشاده فترانا كما قال العلامة الأديب حمدا بن التاه حفظه الله :
تخال أمردنا نشوان من طرب=والشيخ من هزه عطفيه نشوانا
كان ابن سناد شاعرا مطبوعا مرهف الإحساس يزاوج بين الأصالة والمعاصرة فتراه تارة متبتلا في محراب الحب مبحرا في بحوره بأشرعته التي كاد يغرقها عباب عيني "يمن" التي ليس سوى "فدوى" في أبهى تجلياتها كما في قافيته "الأشرعة الخضراء" وتراه تارة كما في حائية الخروج مودعا فدوى ثاويا في عصابة تصدق في نعتها أبيات أوردها الإمام النووي رحمه الله في مقدمة كتابه رياض الصالحين :
إن لله عبادا فطنا=طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا=أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا=صالح الأعمال فيها سفنا
 ولكي لا يكون نقدي انطباعيا واحتراما للتخصص ولكي لا أقفو ما ليس لي به علم فسأورد النصين وأترك للقارئ الكريم حق الحكم عليهما وعلى الشاعر من خلالهما . 
النص الأول : الأشرعة الخضراء
اليوم تنبعث البشرى على نسم=ممزوجة من عيون الفجر بالألق
ويطرق الشعر أبوابي وكم رحلت =بلابل الشعر قبل اليوم عن أفقي
عادت تغني لنفس طالما اكتأبت=وتنشر الأمن بين الخوف والفرق
وبعد "فدوى" وكم أطلقت بين يدي=فدوى زوارق في بحر من العبق
قصائدا لم تكن فدوى لتجزيني =منها سوى الصد والإمعان في الرهق
حتى كأني أخاها قد قتلت ولم=أقتل أخاها وليس القتل من خلقي
وكنت أحسب أن الحب قد بليت =أسبابه وغدا ضربا من الملق
لكن "يُمْنًا" أبت إلا منادمتي=بكل صوت غزير اللحن مندفق
وعدت أستل أحلامي التي اختبأت=وراء بضعة أذيال من الغسق
فلا تكوني كمن تجفو إذا وصلت=واستعملي الحلم ليس الحلم كالحمق
وغن ألحانك اللاتي تعود لها=جرد الغصون رطابا غضة الورق
فإن أشرعتي الخضراء أغرقها=عباب عينيك أو مالت إلى الغرق
النص الثاني: أولئك قومي
ألم ترني ودعت فدوى ودارها=وأصبحت لا ألهو ولا أتمزح
وإني لحران لبرد حديثها=ولكنني ساع إلى الله مصبح
ولو أنها كانت معرس ليلة=لعجت إليها ساعة ثم أبرح
ولكنما يعنى بها اليوم ضامر=يظل بقرقار الهواجر يسبح
ألست تراني ثاويا في عصابة=لمثلهم في جنة الخلد يفسح
سقاهم رسول الله كأسا نقية=من الوحي أجلى للشؤون وأوضح
بلى فتية عافوا البيوت مقيلهم=من الأرض مغبر التنائف صحصح
مشاربهم ماء السماء تنكبت=به أريحيات من الجو تطفح
يبيتون صفا لم يلق بجنوبهم=فراش بها من كل أجرد مكدح
ويغدون شعثا قد تعاطى وجوههم =لدى كل تيهاء السموم الملوح
إذا ما أووا من آخر الليل نعسا=إلى بانة نادى مناد أن انزحوا
يخافون يوما لا يغادر حره=سوى مؤمن بالله لا يتزحزح
أولئك قومي لا رجال تلفعوا=مروط نساء همهن التروح
وكلهم نائي الرضا عن خليله=إذا نال ميسورا من الحظ يفرح
ولم يك بابي دانيا من صحابة=هم طرحوني حيث لم يك مطرح
ولكنه قفر من الناس عازب=خلا أن بوما بالعشية يضبح
وإن كثرت مني الذنوب ولم أزل=خليعا عسى روح من الله يسنح
إذا ما تجلى الله باللطف والرضا=على مهجتي فهو الشراب المبرح
أعرض قلبي عنده عل نفحة=تصادفني من سيبه حين ينفح
 

يتواصل.....