غزاوني كير.. أوباما كير

فعلاً، قد يبدو العنوانُ غريباً، فذكر مشروع أمريكي ضخم مع مشروع موريتاني في سطرٍ واحد سيكون متنافرا حتماً، إلا أن الأمر ليس بتلك "الحدية" التي يراها البعض، فعلى ما يبدو أن تجربة "أوباماكير Obamacare" الشهيرة والناجحة يراد لها أن تُستعادَ، على هذه الأرض على يد الرئيس غزواني.

ولكن كيف ذلك؟

بداية، نذكر أن القانون المعروف باسم "أوباما كير" وضعه الرئيس باراك أوباما لإصلاح نظام الرعاية الصحية، بعد قرنٍ ونصف القرن من تلويح أسلافه من الرؤساء الأمريكيين بإصداره.

غاية أوباماكير أن يوفر تأمينا صحياً شاملا لكل أمريكي بتكاليف منخفضة، وتم إطلاقه عام 2010 وهو أهم إنجاز من انجازات الرئيس أوباما، وهو أول قرار له بعد وصوله للبيت الأبيض..

قانون أوباما هذا كان أهم إصلاح لنظام الرعاية الصحية في الماما آمريكا، على عظمتها ورسوخ قدمها في التنمية، كما أعتُبر أهم إنجازات أوباما في ولايتيْه الأولى والثانية، على الإطلاق..

استفادت حملة الرئيس أوباما الرئاسية الثانية من توظيف "أوباما كير"سياسيًا؛ في إقناع الشعب الأمريكي بإعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية..لا يقبلُ الدستور الأمريكي بمأمورية ثالثة منذ النشأة، ولو سمح بثالثة لربما خرجَ أطرُ ولايتيْ فرجينيا وفلوريدا مدافعين عن مُنجز أوباما، ومطالبين له بمأمورية ثالثة (زوروا جووجل لمعرفة جهة الولايتين).

عظمة هذا المشروع الضخم في كونه لا يقف عند حدود التأمين الصحي، بل يتعدى ذلك إلى وضع سياسات اجتماعية لعون الطبقات المغبونة.. العجيب أنّ لديهم طبقات مغبونة، وأنهم يسمونها بنفس التسمية.

Ghazouanicare

صدّعَ ولد الغزواني، حتى قبل انتخابه، رؤوسنا بالحديث الدائم عن الطبقات المغبونة، بوصفها محور برنامجه، غير أن الرجل، وبعيد استلامه السلطة اصطدم بواقع صعب، خزائن شبه فارغة، ثم جاء كورونا وسَنتُه الطويلة ، ليزيد الطين بلة، ومع ذلك فقد ظل ولد الغزواني مُصراً بالفعل، فجاءت حزمة إجراءات غير مسبوقة لامست مشاغل البُسطاء في الأرياف، والمواطنين الضعاف وضخت المليارات، وحركت المشاريع الصغيرة التي تستهدف الطبقات الهشة..

مالذي حدث؟

أطلقت مندوبية تآزر بميزانية سنوية ضخمة، وشرعت في جهد استثناني لوضع الأسس الصلبة للإقلاع بالطبقات الهشة.. صحيحٌ أن كلمة الإقلاع ذات مدلولات أبعد مما شاهدناه، لكن الإقلاع بمن لا يملك أيّ شيء ربما يعني منحَه أيّ شيء.. لا عبرةَ بالنواقص، ما دامت النوايا تنموية.

سيقول قائلٌ أو يُعلقُ، وغالباً سيكون من كبار المدونين: إن تقسيم المبالغ المالية على الفقراء لا يُفيدهم في شيء، وسيُضر بالاقتصاد، وأنّ صرفَ المال في المشروعات التنموية أجدَى وأنفعُ.. أجزمُ شخصياً بأنّ الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن لا يُنصتُ لنا معشر المدونين، مثل غزواني تماماً، بدليل كونه وقّعَ مشروع قانون لمساعدة الأمريكيين المتضررين من جائحة فيروس كورونا..ويتضمن مشروع القانون تقديم دعم مالي مباشر بقيمة 1400 دولار للمتضررين، ومن المتوقع أن ينتشل الملايين من الفقر..إذاً بايدن لا يفقه في الاقتصاد أيضاً مثل ولد الغزواني.

وبالتوازي مع تبديد المال على الفقراء في المدن والأرياف، أطلقت السلطات المشروع الضخم .. مشروع توفير التأمين الصحي لمائة ألف أسرة، أي ما يقارب 700 ألف مواطن.. لهذا تذكرتُ بأوباما كير، في نسخة موريتانية خالصة، وفي ظرفٍ دولي يستدعي من حكومات العالم الحد من الإنفاق..

وفي نفس الوقت، تم توقيع اتفاقية للتكفل بعلاج المرضى المعوزين الذي يعانون من مشاكل في القلب..هذا حقُهم لكنه تأخر كثيراً ، لأنه يحدُ من ربح العيادات الخصوصية، ويُعيد مستشفيات الدولة إلى وظيفته الاجتماعية غير الربحية.

آلاف المتقاعدين دخلوا في دائرة المستفيدين، وأصبحت الأرامل ويتامى المتقاعدين يتقاضون رواتب آبائهم، والأهم من ذلك أن الرواتب صارت تدفع لهم شهريا بعد أن كانت فصلية..

وقبل أسابيع، عادت الكفالات المدرسية انطلاقا من الحوض الشرقي تحضيرا لتعميمها، في خطوة سيكون لها الأثر البالغ في تشجيع التمدرس وسط الفئات الهشة.. بائسة جداً موائد تلك الكفالات بالنسبة لنا نحن سُكان فيسبوك، لكنّ إقبال الأطفال عليها بنهم (فتبارك الله) يعني أنهم في أمس الحاجة لها..

كان مالُ الدولة دولةً بين الأغنياء.. اليوم، على الأقل، وصلَ للفقراء المنسيّين ..وصلَ بائعات الكسكس.. اشترينا منه الزيتَ والعدس والفول والأرز للأطفال .. هناك أطفالٌ في أعماق موريتانيا علموا لأوّل مرة بأن الدولة على علمٍ بهم.

يقولون إن فتىً من بني ديمان كان يترددُ، في ثمانينيات القرن الماضي، على "طبْ چاه" لأخذ الدواء، وصادفَ في إحدى المرّات أن سأله الدكتور جاه: أنتَ جايْ من المذرذره في الطائرة؟ فأجابه الشاب: يبويَ أنا ذيكْ الحزّه من گلّتْ الصحه ما فتْ الحگتها ..أعطيني ادوايَ خلليني نمشي سابگ اتْجنّنّي..

أنا أيضاً لم أصل بعد إلى وصف موريتانيا في عهد ولد الغزواني بأنها سوّيسرا، كما وصفها أخٌ لي من قبل، ، وأتمنى ألاّ أصلَ إلى تلك المرحلة من "گلّتْ الصحة".