قرار المجلس الدستوري رقم 09/2024 بتاريخ 05/12/2024: الأبعاد والمضامين/ الأستاذ عبد الله أكاه
يجسد قرار المجلس الدستوري رقم 2024/09 حول الطعن في المادة 2 من قانون مكافحة الفساد نموذجًا بارزًا لتفاعل القواعد الدستورية مع المتطلبات القانونية لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد ويعكس فهمًا عميقًا لتداخل النصوص الدستورية مع التشريعات الأدنى، حيث يوازن بين الحصانة الممنوحة لرئيس الجمهورية كجزء من ضمان استقرار السلطة التنفيذية وبين التزام الدولة بتحقيق العدالة ومكافحة الفساد.
إن هذا القرار يُظهر بجلاء الدور المحوري للمجلس الدستوري في تفسير النصوص الدستورية وتطبيقها بما يحفظ التراتبية القانونية ويعزز الثقة في النظام القضائي.
وعلى ذلك الأساس لم يكتف المجلس في هذا القرار بتفسير النصوص في سياقها المحدود، بل قدم نموذجًا متكاملًا لقراءة النصوص القانونية والدستورية على نحو يراعي العلاقة بين الحماية الدستورية لرئيس الجمهورية وبين الالتزام الوطني والدولي بمكافحة الفساد.
وفي هذا السياق تتجسد أبعاد ومضامين القرار فيمايلي:
1- مبدأ سمو الدستور:
أكد المجلس الدستوري أن المادة 93 من الدستور، التي تمنح رئيس الجمهورية حصانة وظيفية أثناء ولايته، تمثل القمة في هرم التشريعات وأوضح أن المادة 2 من قانون مكافحة الفساد لاتتعارض معها ولاتخالف الدستور.
يُظهر هذا الالتزام الصارم بحماية الدستور إدراك المجلس لأهمية دور رئيس الجمهورية في استقرار الدولة، مع الحرص على تطبيق النصوص بما يحفظ هذا التوازن.
2- شمول رئيس الجمهورية بمفهوم الموظف العمومي:
تناول المجلس مفهوم "الموظف العمومي" كما ورد في قانون مكافحة الفساد، وأكد أن هذا المفهوم يشمل رئيس الجمهورية. واعتبر المجلس أن أي تفسير يستثني رئيس الجمهورية من هذا المفهوم يؤدي إلى إفراغ النص من محتواه والغرض الذي أُنشئ من أجله.
يُعد هذا التأكيد خطوة مهمة في تعزيز مبدأ المساواة أمام القانون، مع مراعاة الحصانة الوظيفية المؤقتة.
3- نطاق الطعن وتفسير النصوص:
تعامل المجلس بحرفية عالية مع نطاق الطعن المقدم، حيث ركز فقط على الفقرة ب/1 من المادة 2 دون الخوض في نصوص أو قضايا خارجية.
يُظهر هذا الالتزام دقة قانونية ومنهجية رفيعة تضمن حيادية القرار وسلامة منهجيته. وفقا لمبدأ "القاضي الدستوري لا يحكم إلا في حدود الطلب"
4- الحصانة الوظيفية لرئيس الجمهورية:
شدد القرار على أن الحصانة الممنوحة لرئيس الجمهورية هي حماية مؤقتة تهدف إلى ضمان أداء وظيفي مستقل وفعّال. ومع ذلك، أوضح المجلس أن هذه الحصانة لا تعني إفلاتًا دائمًا من المساءلة، بل هي مقيدة بزمن الولاية وممارسات الوظيفة الرئاسية.
5- التوازن بين مكافحة الفساد والحصانة الدستورية:
نجح القرار في تحقيق توازن دقيق بين متطلبات مكافحة الفساد كهدف أساسي للدولة واحترام الحصانة الدستورية لرئيس الجمهورية.
من خلال هذا التوازن، أكد المجلس أهمية ضمان نزاهة المؤسسات العامة دون الإخلال بمبدأ استقرار النظام السياسي.
6- المساءلة لرئيس الجمهورية:
أوضح القرار أن الحصانة الوظيفية لا تمنع ملاحقة رئيس الجمهورية قضائيًا بعد انتهاء ولايته.
وهو مايعكس فهمًا متوازنًا للحصانة كأداة مؤقتة وليست مطلقة، مما يعزز الثقة في إمكانية تحقيق العدالة بعد انقضاء فترة الولاية الرئاسية.
7- تنفيذ الالتزامات الدولية:
يُسهم القرار في تعزيز صورة الدولة في الوفاء بالتزاماتها الدولية بمكافحة الفساد وتطبيقه بدقة يضع البلاد في موقع متقدم في تبني معايير النزاهة والشفافية، خاصة في سياق التقييمات الدولية لمؤشرات الحكم الرشيد.
8- تعزيز الثقة في النظام القضائي:
يُعد القرار اختبارًا لقدرة المؤسسات القضائية على فرض سيادة القانون دون تمييز وسيظهر تنفيذه مدى نزاهة النظام القانوني، مما يُعزز ثقة المواطنين في عدالة القضاء ومصداقية التوجهات الوطنية نحو مكافحة الفساد.
9- الإلزامية القانونية الشاملة:
يلزم القرار طبقا لعلويته كافة السلطات السياسية والقضائية والإدارية.
وبذلك تُصبح المادة 2 من قانون مكافحة الفساد، بصيغتها المفسرة من المجلس، واجبة التطبيق دون أي تأويل يتناقض مع مضمون القرار.
وهذا الإلزام يشمل احترام شمولية "الموظف العمومي" لرئيس الجمهورية ضمن إطار الحصانة المؤقتة ويمنح أبعادًا عملية لحماية الدولة من أي انتهاكات محتملة.
10- الحيثيات والاستنتاجات:
صاغ المجلس حيثيات قراره بدقة ومنهجية عالية، حيث ركز على تفسير النصوص في ضوء الدستور دون الانحراف عن نطاق الطعن المقدم.
وجاءت استنتاجاته مبنية على أسس قانونية ودستورية راسخة تعزز شرعية القرار وتبعد احتمالات الجدل القانوني حوله.
الخلاصة
يعتبر قرار المجلس الدستوري مرجعًا قانونيًا متكاملًا يعكس التزامًا عميقًا بمبادئ الدستور واحترام التراتبية القانونية من خلال إدماج رئيس الجمهورية ضمن مفهوم الموظف العمومي، مع ضمان عدم تعارض هذا الإدماج مع الحصانة الوظيفية المؤقتة،
وبالتالي؛ قدم المجلس نموذجًا يُحتذى به في تحقيق العدالة ومكافحة الفساد في إطار التوازن الدستوري السليم.
وأبرز قراره بجلاء قدرة على تقديم تفسير قانوني متماسك يُحقق أهداف العدالة دون الإضرار باستقرار المؤسسات، مما يجعله علامة فارقة في تطور الاجتهاد الدستوري في بلادنا.