خطاب الرئيس أمام قمة بريكس..رؤية استشرافية ثاقبة/محمد يحيى ولد السعيد

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على نبيه الكريم

 

 

توطئة:

 

يأتي خطاب فخامة رئيس الجمهورية، الرئيس الدوري للاتحاد الأفريقي، أمام قمة "لبريكس" في إطار الاستراتيجية الناجعة التي يتبناها فخامة رئيس الجمهورية من أجل القيام بأدوار دبلوماسية نشطة في سبيل تحقيق التنمية والتطور في القارة الأفريقية، ودول الجنوب العالمي بشكل عام؛ حيث دأب منذ استلامه مقاليد الرئاسة الدورية للاتحاد الفريقي، على أن يتخذ من المحافل الدولية منابر لبحث قضايا القارة، وإيصال مشاكلها إلى العالم، وإبراز الجهود الحثيثة التي يقوم بها من أجل الرفع من مستوى التنمية، وتوفير الأمن والاستقرار، وتعزيز السلام في مختلف ربوع أفريقيا والعالم.

 

كما يأتي أيضا في سياق الديناميكية الفاعلة التي تشهدها موريتانيا على الصعيد الدولي، سواء على مستوى الاتحاد الأفريقي، والجامعة العربية، أو في أروقة الأمم المتحدة، وما مشاركة فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في الدورة ال 79 للجمعية العامة للأمم المتحدة إلا خير دليل على ذلك؛ حيث سمحت بمزيد من التمكين للدبلوماسية الموريتانية في الخارج، وعززت من مكانة موريتانيا في الأمم المتحدة، إذ ترأس صاحب الفخامة اجتماعا حول المناخ وآخر خاص بالأوبئة في إفريقيا.

 

ومواصلة للدور الرائد، وسيرا على نفس النهج، اختار رئيس الجمهورية في خطابه بمناسبة الدورة الـ 16 لمجموعة بريكس، المنعقدة تحت شعار التعاون المتعدد الأطراف: من أجل أمن وتنمية عادلة دوليين، أن يوصل عدة رسائل بارزة، أهمها:

 

1. ضرورة تحديث الحكامة الدولية:

لقد أكد فخامة رئيس الجمهورية على إن قيام الاستقرار والأمن الدوليين، بنحو مستديم، يستدعي مراجعة منظومة الحكامة المالية والسياسية الدولية، لأن الأولى تعد ضمانا لمزيد من التنمية والتطور والرفاه، وباعتبار الثانية مناط تحقيق الأمن والسلم الدوليين، وهو ما يقتضي مزيدا من تضافر الجهود، وإتاحة الفرص لجميع الدول من أجل حضور فاعل وقوي يتناسب مع تطلعاتها، و أدوارها المفترضة، للمساهمة الناجعة في تحقيق نظام عالمي عادل.

 

وفي هذا السياق، ربط فخامة رئيس الجمهورية، بحكنة وذكاء، بين شعار الدورة الحالية لمجموعة لبريكس، ومتطلبات التحيين للحكامة الدولية؛ حيث أكد أن ذلك يستدعي أعلى مستويات التضامن الدولي والتعاون المتعدد الأطراف، كما يتطلب احتراما صارما للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني؛ إذ أن منظومة الحكامة السياسية الدولية في صيغتها الراهنة، يطبعها الكثير من الحيف والكيل بمكاييل متفاوتة، غالبا على حساب الدول الأكثر ضعفا، والأقل نموا.

 

وقد انتهز فخامة رئيس الجمهورية، الرئيس الدوري للاتحاد الأفريقي هذه السانحة ليجدد مطالبة موريتانيا بإيقاف المجازر الوحشية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، معتبرا أن ذلك نتيجة متوقعة لازدواجية المعايير، والتصامم عن القيم الإنسانية الجامعة، والقرارات والمعاهدات الدولية.

 

وفي رؤيته للحل، وتوضيحه للمقاربة الناجعة، يعتبر صاحب الفخامة أن التضامن والتعاون متعدد الأبعاد، هو الضمان الوحيد لتنمية شاملة ومستديمة، وهو السبيل الأوحد لحل مجمل قضايا الأمن والسلم الدوليين، حتى ننعم بعالم أكثر عدلا وتوازنا، وتمثيلا للدول الأقل نموا، وهو ما دفعه إلى المطالبة بمنح القارة الإفريقية مقعدين دائمين في مجلس الأمن، لتمكينها من إسماع صوتها وضمان مراعاة أولوياتها في الأجندات الدولية.

 

2. المقاربة التنموية للاتحاد الأفريقي:

في هذا المحور، اختار فخامة رئيس الجمهورية، بوصفه الرئيس الدوري للاتحاد الأفريقي أن يكون واضحا وصريحا؛ حيث أكد على مجموعة من النقاط من أبرزها:

 

- أن الاتحاد الأفريقي يتبنى مقاربة تنموية شاملة ومستديمة، في مختلف المجالات، رغم ما يعترضها من تعثر وبطء، مرده –في الأساس- لأسباب خارجية.

- ضرورة بعث ديناميكية جديدة، في التعاون المتعدد الأطراف والتضامن والتآزر الدوليين؛ مما سيساعد في حل مشكل التنمية في القارة الأفريقية.

- أن من الصعب على الدول الإفريقية استغلال فرصها الإنمائية الكبيرة، وتحرير إمكاناتها الهائلة، لصالح التطور والنماء مع استمرار مشكلة المديونية التي تعيق بقوة جهودها التنموية، ونظام المساعدة العمومية للتنمية القائم الذي أثبت قصوره عن تحقيق الأهداف المبتغاة منه.

- أن ضعف تمثيل القارة في المؤسسات المالية المتعددة الأطراف، لا يتيح لها ضمان مراعاة الأجندة الدولية لحاجاتها الإنمائية الملحة، خاصة ما يتعلق منها بالبنى التحتية الداعمة للنمو، ونقل التكنولوجيا، وتعزيز المنظومات التعليمية، والتقنيات الجديدة. 

 

وفي رؤيته لمقاربة الحلول الناجعة، دعا فخامة الرئيس إلى استحداث "ميثاق جديد لتمويل التنمية"، يكون أكثر مرونة واستدامة ويضمن للدول الأقل نموا نفاذا سلسا، ومنصفا لتمويلات تناسب أولوياتها، وهي فكرة نوعية، تنم عن مدى فهم صاحب الفخامة لمشاكل القارة، وبخاصة في مجال التنمية، وأنه يمتلك الرؤية الثاقبة لتجاوز مختلف التحديات، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الأمني، وإيجاد حلول ناجعة لمختلف المشاكل المطروحة.

 

3. تعزيز المكانة الموريتانية:

 

وفي هذا المضمار، يمكن القول إن من أبرز الرسائل التي يبعثها خطاب صاحب الفخامة من علا منبر مجموعة لبريكس هو إبراز صورة ناصعة للجمهورية الإسلامية الموريتانية في المحافل الدولية؛ حيث قادها فخامة رئيس الجمهورية بحكمة وروية واتزان لتكون فاعلة في المشهد الأفريقي والدولي بشكل عام، فأصبحت معلمة ومنارة في التعامل مع النزاعات الأقليمية من خلال تدخل دبلوماسي ناجع، ولعب دور الوسيط الفاعل.

ولعل الجولة التي قام بها فخامة رئيس الجمهورية في الآونة الأخيرة، من أجل نقاش الملفات الكبرى لدى القادة الأفارقة، وقيادة جهود الوساطة في مالي وليبيا، خير مؤشر على ذلك، فقد شارك صاحب الفخامة في القمة 19 لمنظمة الفرانكفونية والتي استضافتها باريس، كما شارك في مدينة هامبورغ الألمانية في مؤتمر للاستدامة، قبل أن يلتقي المستشار الألماني فرانك فالتر شتاينماير في برلين، وفي مدينة أبيدجان بالكوت ديفوار شارك –أيضا- في قمة مخصصة لتنمية إفريقيا، قبل أن يصل إلى العاصمة الليبية طرابلس في محاولة لتفعيل عمل لجنة الاتحاد الأفريقي رفيعة المستوى بشأن ليبيا في إطار نداء برازافيل من أجل تسريع عملية السلام والمصالحة في ليبيا.

 

وقد أبان هذا الخطاب عن رؤية قيادية ثاقبة تدرك أهمية التعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين في تعزيز السلام والاستقرار العالمي، وفق نظرة وعلاقات متوازنة بعيدة عن العاطفة والتحيز، ولعلها السمة الجلى التي يشهد بها الجميع لفخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، داخليا وخارجيا؛ حيث طالما نبه إلى أن هشاشة الوضع السياسي والأمني في مناطق متعددة من القارة الأفريقية، يراد له أن يستمر، حتى تتعزز فكرة "الأمن المستورد"، وتبقى اليد الطولى للدول الكبرى والتحالفات الأمنية الإقليمية؛ مما يسمح باستمرار النفوذ والتدخل في الوقت والمكان المناسبين.

وقد طالب صاحب الفخامة في أكثر من مناسبة، وعلى أكثر من منبر دولي بانتهاج مقاربة عقلانية تبرز ضرورة التفكير الجدي في وضع استراتيجية جديدة، ترتكز على تثمين الإمكانات المحلية للدول الأفريقية والاستثمار فيها، وتغيير سرديات الاستعمار الجديد، و تفكيك التراتبية الواهية بين الدول النافذة ودول القارة؛ من أجل تحقيق استقرار مستدام وفاعل.

 

وفي المحصلة يمكن القول إن خطاب فخامة رئيس الجمهورية، كان خطابا جامعا مانعا ماتعا، تحدث عن أبرز القضايا التي تحتاج القارة الأفريقية والجنوب العالمي إلى نقاشها، مبرزا مقاربات ناجعة، سيؤدي تطبيقها إلى تسوية جدية، وتنمية مستدامة وشاملة، بغض النظر الاستقطاب والتجاذب الدوليين، وما تمارسه مختلف الأطراف الدولية الكبرى من إغراء أو استمالة تسعى من ورائه إلى تحقيق مصالحها الاستراتيجية الضيقة، وتعزيز نفوذها في القارة الأفريقية.

وهذا ما يفسر حرص فخامة رئيس الجمهورية الدائم والدائب على أن تبقى الجمهورية الإسلامية الموريتانية، رائدة في مقارباتها، وتعاملها الحكيم مع جميع اللاعبين الدوليين، وأن تستفيد من علاقاتها الحسنة مع مختلف الأطراف، وتنأى بنفسها عن التجاذبات الضيقة، و كل ما من شأنه أن يزيد من التوتر والتصعيد.