القوة المُعطلة ورجعية التدبير/ موسى ولد أعمر
"لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته (...) ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية (...) وقطع العلاقات الدبلوماسية".
ميثاق الأمم المتحدة، الفصل السابع، المادة 41
تقترب ذكرى مرور عام على إصدار مجلس الأمن الدولي أول قرار له متعلق بالعدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، والصادر منتصف شهر نوفمبر من العام 2023، بعد قرابة شهر ونصف من بداية حرب الطوفان.
هذا القرار كان طليعة لثلاثة قرارات لاحقة من نفس الهيأة العليا في الهرم الدولي، كلها ذهبت أدراج الأرشيف، دون أن تخلق أثرا في واقع العدوان القائم، أو على الأقل تصحح وضعية سكان المنطقة الجغرافية المحتلة، فتمنحهم ما نصت عليه المواثيق الدولية في الباب.
في قراراته الأربعة، طالب مجلس الأمن وشجب، وأشاد واستنكر، وهي مفردات أبقته حبيس مجال عمل الجمعية العامة، ومنظمة العالم الإسلامي، وجامعة الدول العربية، فلم يُنتدب المجلس أصلا لمَعيَرة الأخلاقيات أو توصيف الواقع، إنما لضبط السلم والأمن وحماية الإنسان، لذلك ينتظر منه -حصرا- الأداء الفعال والسلوك المؤثر. والمراجع للقرارات الأربعة يلاحظ مستوى معاكسا لما تملي الوقائع أن يكون؛ فكلما زاد بطش الاحتلال بالمدنيين كلما قلت حدة ودقة وصرامة قرارات المجلس.
وعلى سبيل تبيين العجز؛ طالب المجلس في قراراته تواليا: 2712، 2728 ،2730، 2735 الصادرة عامي 2023 - 2024، والمتعلقة كلا بعدوان إسرائيل على غزة، بحفظ كرامة الإنسان، وحماية الأطفال وطواقم الأمم المتحدة والإغاثة، وعدم إحداث تغيير ديمغرافي في القطاع المحتل، وإطلاق سراح الرهائن.. كل هذه الطلبات ووجهت بأذن صماء من قبل الاحتلال، رغم استعداد المقاومة الفلسطينية للحوار وتقديمها تصورات واضحة للخروج من وضعية احتقار الإنسان والقوانين الدولية، وهو ما حدا بالمجلس إلى خفض نبرة صوته عاجزا أمام تعنت الاحتلال.
هذا الواقع؛ يُحسن توصيفَه بشكل دقيق رئيس الوزراء الأيرلندي مايكل مارتن، حين يقول "إن إسرائيل تعمل على تقويض الأمم المتحدة"، وهو توصيف دقيق لواقع علاقة المنظومة الدولية بالكيان الصهيوني، فمع أن الكيان وليد المنظومة الدولية عكس جميع بلدان العالم؛ مارس قادته منذ التأسيس وحتى اليوم جريمة دوس النظام الدولي، حسيا ومعنويا، ومردوا على احتقاره.
وما بعد السابع من أكتوبر 2023 كان مختلفا نحو الأسوأ، فقد أزاح الاحتلال كل غَرابيلَه التي تخفّى وراءها سابقا، وواجه العالم هو وحاميتُه بوجه مكشوف، فلم يرْعَ للأمم المتحدة ومجلسها إلاًّ ولا ذمة، ولم يخَف تجاوز أي خطوط كانت من قبل توصف بالحمراء أُمميا، وكأنه يضع في الحسبان أنه ليس العراق ولا سوريا ولا ليبيا ولا مالي ولا إفريقيا الوسطى.. حتى يخاف تطبيق مقتضيات الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في حقه.
وعلى ما يبدو فإن الفاصل الزمني بين نوفمبر 2023 ونوفمبر 2024 لم يك كافيا ليبصر مجلس الأمن حقيقة أن الكيان الصهيوني لا يهتم لما ورد في قرارات المجلس، ولم يك كافيا لتدرك المنظومة العربية والإسلامية أن انتظار قرار من مجلس الأمن يلزم إسرائيل بتوقيف عدوانها؛ تعلق بالسراب، وبرود ردة فعل المنظومة الدولية على استهداف الاحتلال لقوات حفظ السلام الأممية في لبنان؛ خير مثال.
وعلى سبيل الحَقّانية في الطرح؛ كان، وما يزال، بإمكان الأمة العربية والإسلامية على ضفاف شلال دم 42 ألف فلسطيني، وهدم 70% من البنى التحتية في غزة، واجتياح لبنان؛ اعتبار قرارات مجلس الأمن المذكورة أعلاه إذنا صريحا بإنفاذ مقتضيات البند السابع من الاتفاقية الأممية، والتدخل ولو بما دون العمليات العسكرية لصالح الإنسانية. إن لم يكن لبواعث عقدية وقيمية؛ فلأخرى مستقبلية وجيوستراتيجية. ولا يُعد هذا السلوك مُستَجدا في تأويل وفهم النصوص الدولية، وحرب الخليج الثانية، وتدخل الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، وقضية روسيا وأوكرانيا أمثلة حية بينة.
ختما؛ تُشير بوصلة التاريخ ويؤكد الدارسون أنه آن للأمم غير المنخرطة في مجلس الأمن بشكل دائم أن تفيق، وتنتقل من مرحلة طلبِ عطف الأعضاء الدائمين إلى مرحلة صناعة التأثير. ورحم الله بلبل تونس الخضراء أبا القاسم الشابي إذ سارت الركبان بحكمته:
ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحُفر
وحُفر الجُبن ضروب، كلها أجادب لا تُمسك ماء ولا تُنبت كلأً.