أزواد.. قاعدة الإرهاب وساحة التمرد المتجدد/ محمد المنى

في قلب منطقة الساحل الأفريقي يقع إقليم أزواد المالي المضطرب هذه الأيام، والذي أصبح منذ مطلع القرن الحالي منطلق الحركات الإرهابية وساحة سيطرتها الرئيسية في المنطقة. لم تُعرف تاريخياً حدودٌ جغرافية واضحة ومحددة بدقة لإقليم أزواد، بل اختلفت حدوده من مصدر تاريخي إلى آخر، وقد ظهر أزواد بمفهومه الواسع لدى أغلب المؤرخين على الخرائط الأولى التي وضعها الرحالة المسلمون ثم الغربيون قبل الاستعمار الأوروبي للمنطقة بفترات طويلة، وذلك باعتباره الطرف الجنوبي الغربي للصحراء الكبرى، وبوصفه مشتملا على جزأين: شرقي يقع داخل أراضي جمهورية النيجر الحالية (منطقتي أقادس وأرلت)، وغربي يقع ضمن حدود جمهورية مالي الحالية (السودان الغربي سابقاً). ويشترك الجزءان معاً في خصائص بشرية وجغرافية متشابهة ومتشابكة، إذ يغلب عليهما الطابع الصحراوي القاحل، بخصائصه التضاريسية الوعرة والمناخية الجافة والنباتية المحدودة، كما يتشكل الثقل الديموغرافي فيهما من قبائل الطوارق والعرب التي يغلب على حياتها نمط الترحال البدوي الرعوي.
إلا أن مصطلح أزواد في التناول الإعلامي والجيوسياسي المعاصر يشير حصراً إلى أزواد المالي دوناً عن الجزء النيجري، وهو المعنى الذي نعتمده هنا ونتبناه كلما استخدمنا هذا المصطلح. وبهذا المفهوم، فإن إقليم أزواد يقع في شمال جمهورية مالي ويشكل نحو ثلثي مساحتها، أي حوالي 822 ألف كيلومتر مربع، وهو ما يعادل مرة ونصف مرة مساحة فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة التي بسطت سيطرتها على مالي بما فيه أزواد طوال العقود الستة الأولى من القرن العشرين. 
تعني لفظةُ «أزواد» في لغة الطوارق، أي التيفانيق، الحوضَ أو المنطقة المتصفة جغرافياً بانخفاض الوسط منها عن الأطراف، في إشارة إلى الوادي الأحفوري الذي يشق الصحراء الكبرى ويمتد من منطقة تيمبكتو عند عقفة نهر النيجر جنوباً إلى سبخة تاودني الملحية وجبال إيفوغاس ومنطقة الحنك شمالا عند الحدود المالية الجزائرية الموريتانية الحالية، ومن كيدال في الشرق (أو منطقة تاملت) على مقربة من ملتقى الحدود الحالية بين مالي والجزائر والنيجر شرقاً إلى الحدود الموريتانية غرباً.
وينقسم إقليم أزواد المالي إلى ثلاثة مناطق رئيسية: أولاها المنطقة الجنوبية المحاذية لنهر النيجر، وهي منطقة زراعية غابوية تتميز بكثرة مياهها وقيعانها وأشجارها، تعتمد حياة سكانها على النشاط الزراعي والرعوي. وإلى الشمال منها تقع منطقة صحراوية تمتد من الوسط باتجاه الغرب والشمال الغربي بدايةً من الخط الواصل بين كيدال في الشرق وتندمه في الغرب، وهي منطقة ذات تضاريس صحراوية جرداء، تتصف بقلة مياهها وندرة أمطارها، ومن ثم بقلة سكانها أيضاً. أما المنطقة الثالثة من مناطق إقليم أزواد فتقع في أقصى شماله وشماله الشرقي، وتعرف باسم «آدرار الإيفاغوس» المشهورة بسلاسلها الجبلية وهضابها الوعرة، وتضم سلسلة جبال كيدال وتسليت وأكلهوك وتايكارين وتكريرت وإفقاس والهكار واضاغ وآدرار سطف.
وإلى ذلك يتكون الإقليم إدارياً من ثلاث ولايات، أكبرها ولاية «غاو» الواقعة في أقصى الشمال وعاصمتها مدينة غاو التي تعد كذلك عاصمةً للإقليم ككل، وولاية تيمبكتو ومركزها مدينة تيمبكتو نفسها التي تعد العاصمةَ الثقافية والتاريخية لأزواد. ثم ولاية كيدال عاصمة الشمال الشرقي والمعروفة أيضاً باسم «آدارار الإفوغاس».
  وفيما يخص المجموعات السكانية في الإقليم فأهمها من الناحية العددية الطوارق الذين شكلوا سلطنات حكمت الإقليم على مدى قرون طويلة، ثم العرب بما لهم من نفوذ روحي وثقافي، إضافة إلى السونغاي الذين يتمركز معظمهم في مدينة تيمبكتو، ثم أخيراً قبائل الفلان التي تقطن في أقصى جنوب الإقليم وفي ولاية موبتي المحاذية له جنوباً.
وقد شهد إقليم أزواد في تاريخه المعاصر العديد من الحروب وثورات التمرد المسلح، خصوصاً بعد عام 1960 عندما نالت مالي استقلالَها عن المستعمر الفرنسي الذي رفض مطالب زعماء الإقليم ورسائلهم الداعية لمنحه الاستقلال وعدم ضمه إلى الجمهورية المالية. وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ شن الطوارق والعرب تمرداً مسلحاً بقيادة الزعيم الطارقي الإيفوغاسي «زيد أغ الطاهر» الذي طالب باستقلال الإقليم عن مالي، واستقطب لحركة تمرده العديدَ من القبائل العربية والطارقية، لكن سرعان ما استطاعت الحكومة المالية إخماد تمرده بالقوة العسكرية الكاسحة. وفي عام 1989 اندلع تمرد مسلح آخر تزعمته «الحركة الشعبية لتحرير أزواد» بقيادة أحمد ولد سيدي محمد ولد بده، أحد أعيان قبائل البرابيش العربية وقائد «الحركة العربية الأزوادية» الموالية حالياً للحكومة المالية، إلى جانب إياد أغ غالي الذي هو أحد أعيان قبائل الإفوغاس الطارقية والزعيم الحالي لحركة «أنصار الدين» المسلحة، التي اندمجت في عام 2017 مع جماعات إرهابية أخرى تحت اسم «جماعة أنصار الإسلام والمسلمين». وفي ذروة المواجهات بين الجيش المالي والانشقاقيين الأزواديين، حدث انشقاق داخل «الحركة الشعبية لتحرير أزواد»، حيث انفصلت القبائل العربية وأسست «الحركة العربية الإسلامية لتحرير أزواد» بقيادة الذهبي ولد سيدي محمد الذي سيصبح وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي في الحكومة المالية المتشكلة في مارس 2013. أما إياد أغ غالي فوقَّع في عام 1991 اتفاقاً مع الحكومة المالية (بوساطة جزائرية) منهياً تمردَ فصيله ومنضماً إلى القوات المالية في قتالها ضد الحركات الأزوادية الأخرى الرافضة للسلام، مما أحيا نارَ الصراع القديم داخل الطوارق بين قبائل الإفوغاس وقبائل الايمغاد التي أنشأت «الجيشَ الثوري لتحرير أزواد»، علاوةً على قبائل شامنمس التي أسست هي كذلك فصيلا خاصاً بها يدعى «الجبهة الشعبية لتحرير أزواد». بيد أن هذه الحركات رضخت أخيراً لخيار السلم ووقعت مجتمعةً اتفاق سلام في تيمبكتو مع الحكومة المالية عام 1996. 
لكن سرعان ما اشتعلت الحربُ مجدداً حيث عاد الطوارق في عام 2005 إلى حمل السلاح متهمين الحكومةَ المالية بالتنكر لتعهداتها في الاتفاقيات السابقة. وتجدد التمرد هذه المرة تحت قيادة العقيد إبراهيم أغ باهانغبا، أحد المساعدين السابقين لإياد أغ غالي الذي كان قد أصبح مسؤولا في وزارة الخارجية المالية. وفي هذه المرة أيضاً نجحت الحكومة المالية في خلق صراع بين العرب والطوارق، مستغلةً مهاجمةَ المتمردين الطوارق معسكراتِ الجيش المالي التي يقودها ضباط عرب، كما استفادت مجدداً من العداء التاريخي بين قبائل الايمغاد الموالية لها وقبائل الإفوغاس التي تقود التمرد. وبعد هزيمة التمرد الأزوادي الثالث غادر العقيد إبراهيم باهانغا والمئات من رجاله مناطقَهم في أزواد متجهين إلى ليبيا، وهناك ضمهم القذافي إلى «قوات المغاوير» التي تعد نخبة كتائبه المسلحة. 
وبداية من مطلع الألفية الثالثة كانت «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» الجزائرية تبحث عن مأوى لها في الصحراء من ملاحقات الجيش الجزائري الذي بدأ يضيّق الخناقَ عليها في الجبال والكهوف داخل التراب الجزائري، فقررت اختيار أزواد الذي رأت فيه بيئةً تناسبها، لاسيما في ظل انتشار الأمية والفقر بين السكان وتوارث أفكار المظلومية الثقافية بينهم إزاء الدولة المالية منذ عدة أجيال.
وسرعان ما بايعت الجماعة تنظيم «القاعدة» لتصبح «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، معتمدةً في العلاقة مع السلطات المالية على «سياسة المتاركة»، وبذلك استطاعت اختراقَ المجتمع المحلي الأزوادي، وأقامت علاقاتِ تحالف ومصاهرة مع بعض مكوناته، كما انخرطت في أنشطة وممارسات أخرى، مثل التهريب والاختطاف وتجارة المخدرات.. كانت مصدرَ ثراء لقادة التنظيم وبعض شركائهم المحليين. وبفضل ما تدرّه هذه الأنشطة، استطاع تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» تجنيد مئات الشباب الأزواديين الذي يعانون البطالة والفقر جراء الهشاشة الاقتصادية والتنموية للإقليم.
وكان التحول المفصلي الآخر في الأوضاع الأمنية بالإقليم سقوط نظام القذافي عام 2011، والذي شكّلت تداعياتُه تحولا زلزالياً في أمن منطقة الساحل الأفريقي ككل، لاسيما إقليم أزواد الذي استقبل آلاف المقاتلين الطوارق العائدين من ليبيا، ومعهم الكثير من أسلحة الجيش الليبي ومعداته. وكان المستفيد الأول من هذه العودة هو تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، وبعض الجماعات الإرهابية الناشئة تحت رعايته، مما سيرسم بداية مرحلة جديدة من الحرب والفوضى والإرهاب في الإقليم.
في ذلك العام، أي 2012، وبالاعتماد على العائدين من ليبيا، بدأت «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» حملتها العسكرية ضد الجيش المالي في قواعده بالإقليم، وتمكنت من إسقاط بعضها ولم تستطع الاستيلاء على بعضها الآخر إلا بمساعدة حركتي «أنصار الدين» و«التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا» القريبتين من «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، لتسيطر الحركات الثلاث معاً، وفي غضون بضعة أسابيع، على جميع القواعد العسكرية في الإقليم، كما سيطرت على مدنه الرئيسية الثلاث، كيدال وتمبكتو وغاو، ثم بدأت بعض هذه الجمعات تلوح بالزحف جنوباً نحو باماكو. وفي الأثناء قام العسكريون المنكفؤون من أزواد إلى بامكو بإطاحة الرئيس المنتخب الجنرال أمادو توماني توريه، متّهمين إياه بالتقصير في دعمهم بالسلاح والعتاد في مواجهة التمرد الأزوادي المسلح.
الثمار السريعة للتعاون بين الجماعات الثلاث أغرت «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» بالتحالف مع جماعة «أنصار الدين» لتعلنا معاً قيامَ «جمهورية أزود الإسلامية» المستقلة، لكنه تحالف سرعان ما تفكك نهائياً عقب تعاون «أنصار الدين» مع الجماعات المتطرفة الأخرى لطرد «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» من مدن الإقليم. وفي تلك الظروف أصبحت تيمبكتو خاضعةً لكل من «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» و«أنصار الدين»، وغاو تحت سيطرة «التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا»، أما كيدال فاستأثرت بها «أنصار الدين» لنفسها.  
 لكن الجماعات الثلاث ستفقد السيطرة على المدن الأزوادية الثلاث بسبب عملية «سرفال» العسكرية الفرنسية مطلع العام 2013، إذ نجحت العملية في إخراج المسحلين وطردهم من مدن الإقليم جميعاً، لتدخل هذه الجماعات طوراً جديداً عرفت خلاله حالات من الانشطار والانصهار، التحالف والتقاتل، أسفرت عن تحلل جماعتي «أنصار الشريعة» و«التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا»، كما أضعفت كلا من «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» وحركة «أنصار الدين»، لكنهما بقيتا التنظيمين الرئيسيين في خارطة الجمعات الإرهابية داخل إقليم أزواد.
 وقد نجحت عملية سيرفال في تحقيق هدفها المباشر متمثلا في استعادة المدن الأزوادية من الجماعات المسلحة، لتبدأ عملية برخان في عام 2014 كخطة أمنية إقليمية تهدف لمحاربة التمرد وإرساء الاستقلال في الإقليم بتنسيق وإشراف فرنسي، وبمشاركة خمس دول هي مالي والنيجر وموريتانيا والتشاد وبوركينا فواسو، أي الدول التي ستؤسس في عام 2018 «مجموعة دول الساحل الخمس»، برعاية فرنسية. 
 لكن رغم قيام المجموعة الجديدة ( G5) التي أنشأت قوة عسكرية مشتركة تضم حوالي عشرة آلاف عسكري، بالإضافة إلى قوات أممية في الإقليم، فإن الأوضاع الأمنية ظلت في تدهور مستمر على مستوى منطقة الساحل، خاصة في إقليم أزواد وفي المثلث الحدودي المشترك بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو. ومع فشل أمني مثل هذا، فاقمه فشلٌ تنمويٌ مزمن، انصب اللوم داخل الرأي العام الوطني في الدول الثلاث على فرنسا، ليتجسد أخيراً في انقلابات عسكرية متتالية في هذه الدول رفعت كلُّها شعارَ مناهَضة المستعمر الفرنسي السابق، لكن بقي الوضع في إقليم أزواد على ما هو عليه وصولا هذه الأيام إلى محاصرة تيمبكتو، الحاضرة الثقافية المركزية تاريخيا للإقليم، على أيدي الجماعات المسلحة مجدداً!