محمد الشيخ أيها الرجل الثري!/ محمد ولد إدومُ
محمد الشيخ أيها الرجلُ الثَّرِيّ!
ترددتُ كثيرا قبل الإقدام على تدبيج هذه الحروف، فأنا تلميذٌ وفيٌّ لمولانا النِّفريِّ، وأروي عنه مقولتَه الشهيرة "كلما اتَّسعَ المعنى ضاقت العبارة"، إنني ألمح الكلمات في معجمي عاجزةً عن الانطلاق والرقص كعادتها، لفرط ضيق العبارة… أشعر أنني لا أكاد أبينُ! ومع ذلك سأبين!
حسنا… يوم أمس نظم عمال الإذاعة تكريما خفيفا للمدير العام المستفيد من حقه في التقاعد محمد الشيخ سيدي محمد، وقفتُ في طرف القاعة قرب الباب، كنت أراقب المشهد بشيء من التأمل…. أنظرُ الى يميني فأرى وجهَ بلقيس يحاولُ كبتَ الدموع، أتنقل بين الوجوهِ الواجمةِ تفيض حباًّ، وتكاد تفيض دمعاً، بعضها يقاوم انهمار الدموع والبعض الآخر فشل في مداراتِها.. من بلقيس إلى بشير، إلى توفيق، إلى كمرا ، إلى محمد سالم، إلى الشيحاني، إلى سيدي إلى المصطفى، إلى الصفيتين، والمريمين والميمونتين والقائمة تطول، حتى "تافا" الذي ظنته عصيّ الدمع ضبطتُه متلبسا على قارعة النحيب!
كلُّ يحاول أن يخفيَ ما تبديه تقاسيمُ وجهه وتفضحه العَبراتُ وتؤكده أنواءُ الدموع الغائمة بين عينيه، من المستشارين والمديرين ورؤساء المصالح والصحفيين والفنيين والسائقين والعمال البسطاء… الكل انجرف وراء عاطفةٍ بدت مسيطرة على الجو، سمتها الواضحة: امتنان وعرفان وضعفٌ أمام الوداع المقدر!
لماذا وداعُك ـ يا محمد الشيخ ـ مسيلاً للدموع إلى هذه الدرجة؟
لا أحد يذرف الدمع إلا صادقاً… لا أحد يبكي على أحد إلا يحبه، الدموع لا تنافق تماما كما الأقدام! قلتُ في نفسي وأنا أرقبُ المشهدُ وأنضمّ لاإرادياً إلى أوركيسترا الاستعبار العفوية: "كم أنت ثري يا محمد الشيخ"!
إنني لا أقيس ثراءَ المرء بعدد الأصفار على اليمن في أرصدته البنكية، ولا عدد وثائق ملكية العقارات التي يحتفظ بها في خزائنه؛ وإلا لكان محمد الشيخ في عداد الفقراء لفرط زهده في الدرهم والدينار و مكاسب الدنيا؛ بل أقيس ثراء الإنسان بأرصدة العواطف النبيلة والمشاعر الجياشة و الحب العظيم والتقدير الوافر والاحترام الكبير، الأرصدة المحفوظة في قلوب وأفئدة وأرواح كل الذين عرفوه وجمعتهم دروب الحياة ومحطاتها زمناً طالَ أو قصُر… "…ومضى كلٌّ إلى غايته، لا تقلْ شِئنا فإنّ الله شاء…."
عرفتُ محمد الشيخ على امتدادِ ثلاث سنوات، عملتُ تحت إمرته، وعرفتُ فيه الصدق والتفاني في العمل والإخلاص للأشياء والأفكار التي يؤمن بها.. عرفتُه مثقفاً مفوَّهاً، يملك رؤية واضحة ورسالةً نبيلة.
"هل سافرتَ معه؟" نعم سافرتُ معه مرارا، فلم يكن المديرَ بقدرما كان رفيق السفر وصديق المهمات الصّعاب، لم يمنح نفسه يوما امتيازا في الرفاهية لا في السفر ولا في الإقامة، إلا بقدرما ما يوفره لأبسط فرد في فريق العمل… ثم إنني عرفتُه قائدا حقيقيا في الميدان، حين يعطي الأوامر بتنفيذ مهمةٍ ما، يكون في مقدمة المنفذين، فإذا طَلبَ من عاملٍ حملَ لبنةٍ حمل هو نفسه لبنتين، وتلك ـ لعَمري ـ سمة القائد الناجح.
عرفته قَدوراً على التفكير في المشاريع الريادية التي تبدو للوهلة الأولى مستحيلة… ولكنها في نهاية المطاف تتحقق على أرض الواقع تماما كما تخيلها في لحظة إلهامً ربما!
عرفته قريباً من الضغفاء، منحازا إلى المطحونين والكادحين والذين لا صوت لهم، مُبجِّلاً للعلماء والمثقفين والمفكرين وأهل الثقافة والفن..