قضية المرحوم عمر جوب.. المكاسب والإخفاقات/ الهيبة الشيخ سيداتي
قضية المرحوم عمر جوب: المكاسب والإخفاقات
أثارت قضية المرحوم عمر جوب، الذي توفي رحمه الله بعد توقيفه في إحدى مفوضات الشرطة، عددا من الإشكالات، بعضها كامن وعميق يتجدد في مثل هذه الظروف، وبعضها آني مرتبط بالحدث نفسه.
وبالنظر للاستقطاب الذي يواكب مثل هذه الأحداث فإن من الصعب الاتفاق على تقييم موضوعي لطريقة التعامل معها والحكم على مآلاتها، فما يراه البعض توفيقا ونجاحا، قد يعتبره المتموقع على الجهة الأخرى فشلا ما بعده فشل. ولذلك وجدت من اللازم أن أقر، قبل سرد نماذج مما أراه نجاحات وما أعتبره إخفاقات في التعامل مع القضية، بأنني أعي مخاطر الكتابة عن مثل هذه الأحداث بسبب حدة الانقسام حولها ورسوخ المواقف المسبقة منها.
أهم المكاسب، في نظري، نجاح ذوي المتوفى والجهات الحقوقية المؤازرة لهم في الضغط من أجل تحقيق جدي حول ظروف وملابسات القضية. وهو نجاح يعكس تحسنا معتبرا في مستوى الوعي الحقوقي وإمكانيات الضغط على السلطات.
النجاح الثاني، ويمثل الوجه المقابل للأول، هو اختلاف تعاطي السلطات مع مثل هذه الأحداث واستعدادها الملحوظ للبحث عن الحقيقة، ما يعكس إدراكها أن الجريمة لا نسب لها وأن حماية المجرمين من التحقيق وحصانتهم ضد العقاب تمثل خطرا على الوطن، وتنتقص من شرعية عمل الأجهزة التي ينتمون إليها ومن مصداقية الدولة نفسها.
ومما يدعو للارتياح أن هذا التطور في مستوى الاهتمام بالحقيقة، شعبيا ورسميا، بات سمة ثابتة في التعاطي مع مثل هذه الأحداث وسجل تراكما مطردا خلال الفترة الأخيرة، حيث تجسد في التعامل مع الحادثة الأخيرة ومع جريمتي الأكاديمية البحرية ومفوضية دار النعيم 2. والنجاح في الحالات الثلاث نجاح للجميع: للأهالي الذين صمدوا وصبروا، ولقوى المجتمع التي آزرت وضغطت، وللسلطات التي تجاوبت وتصرفت بمسؤولية.
أما الإخفاقات، فلعل أبرزها - وهو ذو طبيعة اجتماعية وثقافية أساسا - ما كشفته الأحداث الأخيرة من قابلية قطاعات واسعة من المجتمع للوقوع في فخ الاستقطاب والتوتير واستعدادها لكل أنواع المبالغات والتجاوزات.
نحن نعيش في مجتمع مقسم تقليديا إلى قبائل وفئات وأعراق، ولم نتمكن بعد من تجاوز الأبعاد السلبية لهذا التقسيم الأفقي. لكن أسوأ ما في الأحداث الأخيرة أنها أعادت إلى الأذهان مدى جاهزية كثيرين منا لتحويل هذا التقسيم الأفقي إلى انقسام عمودي يلغي كل المشتركات ويبرر كل التجاوزات. والغريب هو انخراط معظم نخبنا - بالفعل والمشاركة أو بالصمت والتعاطف - في هذا الاصطفاف العبثي الذي يكاد يلغي كل أشكال الانتظام العقلاني، حيث تختفي فجأة الاصطفافات السياسية والتصنيفات الايديولوجية لصالح ولاءات شبه غريزية لا يكاد يفلت من ربقتها أحد. حتى أكثر الناس حكمة ورشدا يجد صعوبة في اتخاذ موقف متزن والصدع بكلمة الحق في وجه سلطان الحمية لما يراه هؤلاء أو أولئك كيانهم المهدد بالمؤامرة والعدوان.
هذه القابلية للاستقطاب الحاد والانقسام العمودي ليست وليدة اللحظة طبعا، لكن تجددها نذير خطر على استقرار البلد وانسجام المجتمع، ويقتضي التعامل معها تشخيصا عقلانيا متأنيا ومعالجات متبصرة وجادة.
الإخفاق الثاني - وهو مؤسسي هذه المرة ولا يقل خطورة عن الأول- هو ما كشفته هذه القضية من إقرار بعض أجهزة الدولة نفسها بضعف أو انعدام مصداقية كل ما يتم في هذا البلد، حتى عندما يتعلق الأمر بمسائل ذات طبيعة فنية بحتة. ويتجلى هذا الإقرار في اللجوء إلى إجراء خبرة طبية في الخارج والاحتفاء بنتيجتها، وهو ما يكشف أحد أمرين كلاهما معبر عن أزمة خطيرة. فإما أن بلادنا لا تتوفر على وسائل لإجراء هذا النوع من الخبرات، وهو أمر لا يصدق وإن صح فهو يضع موضع الشك كل تقارير الطب الشرعي التي سبق أن أعدت بخبرات وطنية؛ وإما إنه متاح، وبذلك يكون اللجوء إلى خبرات اجنبية إقرارا بعدم مصداقية ما يتم إنجازه محليا، وهذا الإقرار خطأ استراتجي أعمى عنه ضغط اللحظة وحدة الاستقطاب الذي يفترض في الأوضاع الطبيعية أن تبقى مؤسسات الدولة، وبصفة خاصة القضاء، فوق مستوى الانفعال به.