من صور المروءة:خسِرَ ماله و ربح ذاتَه
كانت أواخر الستينيات وبداية السبعينيات أعواماً قاسيةً على أهل البادية في بلادنا، وهم أغلبية السكان الكبرى في ذلك الوقت، حيث تعرّض عالَمُهم الريفي لموجات جفاف ساحقة ماحقة قضت على كل مقومات الحياة فيه. وكان لأحد الرجال في حينه دكانٌ عند منهل من المناهل الشهيرة، على هيئة كوخ من الزنك، وكان يجلب له البضاعةَ من مراكزها في مدينتي نواكشوط وروصو، بشق الأنفس وأغلى التكاليف. وكان السكان قد فقدوا جميعَ مواشيهم، وهي عماد اقتصادهم في حينه، لذا ما عادوا يستطيعون شراء احتياجاتهم إلا دَيناً، لكنهم يتعسرون في قضاء الدين، وسرعان ما تنفد بضائع المحل فيضطر صاحبه إلى السفر نحو نواكشوط أو روصو بغية جلب بضائع أخرى تلبيةً لاحتياجات السكان من السلع الضرورية، فيشترونها منه ديناً هي الأخرى على دَينهم السابق. وهكذا ظل دفتر الدَّين يمتلأ بأرقام تتراكم في ذمم السكان المعسرين، فيما كان رأس المال الفعلي لصاحبنا يتناقص أمام ناظرَيه إلى أن بلغ الصفر، فأغلق بابَ الدكان وانصرف نهائياً نحو خيمته. عندها لامه عاذلوه على الإسراف في الإدانة لكل مَن يطلب منه الاستدانة، وعلى استنكافه عن طلب استرجاع أمواله من المدينين.. فقال لهم: فلان (يقصد نفسَه) ليس لئيماً حتى يرد ذويه وأهل وده عن مبتغىً يحتاجونه مِن مالِه، ولا سفيهاً كي يفقد مالَه ثم يفقد ودَّ ذويه ومحبيه!
والحقيقة أن هذا التاجر، الكريم والحصيف وصاحب المروءة، قد خسر أموالَه ربما إلى غير رجعة، لكنه لم يربح ودَّ محبيه وذويه ومعارفه فقط، وإنما ربح إنسانيتَه ونظرتَه لذاته أيضاً.
محمد المنى