فحوص الشاي الأرباح قبل الأرواح
بعث إليَّ أحد الأصدقاء الموريتانيين المغتربين في فرنسا علبةً من الشاي، قبل أسابيع من الآن، وقد تفاجأت من ذلك، إذ لأول مرة أعلم أن الأسواق الفرنسية تستورد الشاي وتبيعه. وبسبب هذا الاعتقاد فقد سبق لي أن بعثتُ للصديقِ نفسِه بمدد بسيط من الشاي، وكنتُ على نية فعل ذلك مجدداً كلما سنحت الفرصة. لكني تفاجأت بصديقي وهو يرسل لي بعلبة من الشاي.. وتساءلتُ في نفسي عن المغزى الذي أرادَه مِن ذلك، ولم أجد تفسيراً سوى أن هذه المادة متوفرة في الأسواق الفرنسية وبجودة أعلى، وبالتالي فلا داعي يدعوني لتحمُّل «مشقة» إرسالها هناك. وقد تأكدت أنها الرسالة التي قصدَها صديقي بعد أن جربتُ محتوى العلبة (الهدية) ووجدتُ شايَها بنكهة أصيلة لم أتذوقها منذ زمن طويل، ربما منذ الوقت الذي تخلت فيه المرحومة «سونمكس» عن أن تكون المستوردَ الوحيدَ لشاي (8147)، وما حدث بعد ذلك من فوضى عارمة في سوق الشاي لدينا.
ثم تأكد لديَّ قصدُ صاحبِي حين ألقيتُ نظرةً على نشرة معلومات البضاعة على أسفل العلبة، وهي بحبر لاصق أصلي غير قابل للإزالة أو التغيير، وفيها كل المعلومات حول منشأ السلعة ومستوردها وعنوانه، ونوعية الشاي والعناصر المضافة إليه ودرجة مطابقتها لمعايير السلامة الأوروبية.. إلى غير ذلك من المعلومات التي ينبغي تبيينها على أي سلعة غذائية في السوق.
وعندها مباشرةً تذكرتُ الصور المنشورة لـ«البطارين» خلال الأشهر الأخيرة، وكل منهم جالس إلى «المواعين» كما لو أنه يُعِد الشاي، في منظر هدفه طمأنة المستهلكين على سلامة الشاي المستورد إلى بلادنا.. وفهمتُ أن هؤلاء إنما يستخدمون مثل هذا الشاي المأمون القادم من فرنسا، وليس أصناف شاينا المخلوطة، على الأرجح، بمواد لا يعلمها إلا الله.
كما تذكرتُ مبادرة «الأطر الموريتانيين في الخارج» الذين قدموا عينات من الشاي لفحصها لدى أحد المختبرات الفرنسية، ولم يستغرق ظهور النتائج سوى بضعة أيام.. وتذكرت إعلان وزارة التجارة منتصفَ العام الماضي، ثم مرة أخرى في نهاية العام، أنها تعاملت مع مختبر أجنبي لتحديد مدى سلامة أصناف الشاي المستوردة لبلادنا ودرجة جودتها.
وفهمت أيضاً هذا التراخي، بل التلكؤ المريب من جانب الوزارة فيما يخص بيان تلوث الشاي الصيني المستورد من عدمه. فقبل قرابة العامين أظهرت فحوص في دولة مالي المجاورة أن الشاي الصيني المورد إليها ربما يكون ملوثاً بمواد كيماوية مسرطنة، وبالفعل فقد تمت هناك مصادرة كميات كبيرة من ذلك الشاي، فأثار ذلك مخاوف الموريتانيين باعتبار أن بعض موردي الشاي الصيني إلى مالي هم نفس مورديه إلى بلادنا. وبعد أسابيع من المطالبات الواسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، أعلنت وزارة التجارة الموريتانية أنها أرسلت عينات من الشاي للفحص في أحد المختبرات الأجنبية، فانتظر الجمهور أسبوعاً ثم شهراً ثم ثلاثة أشهر ثم ستة أشهر ثم سنة وأكثر، فعاد المدونون إلى إثارة الموضوع مطالبين الوزارة بالإفراج عن نتائج فحوص العينات التي أعلنت عن أرسالها، خاصة أن بضعة موريتانيين مغتربين في أوروبا تعاملوا بوسائلهم الخاصة مع أحد المختبرات المحترمة، وخلال بضعة أيام أرسل إليهم نتائج فحص عينات الشاي التي تعاملوا معه عليها، وهي النتائج التي أظهرت وجودَ سمّية عالية في معظم العينات المفحوصة، أي تلوثها بمواد كيماوية مسرطنة. وبدل أن تعتذر الوزارة عن تأخر إعلان نتائج الفحص الذي أعلنت عنه، وتشكر جهود المواطنين المغتربين ومبادرتهم النبيلة نيابةً عن الجميع، أصدرت تصريحات غاضبة من تصرف أولئك النبلاء، وبدا كما لو أنهم كشفوا حقيقةً كان ينبغي إبقاؤها سراً.. سراً مكتوماً يحقق للتجار مزيداً من الأرباح ويقتل من الموريتانيين مزيداً من الأرواح.
وأمس تابعنا متحدثاً من الوزارة قال على شاشة التلفزيون إن نتائج الفحوص وصلتهم، وإنها تبين سلامةَ العينات المفحوصة، وإن الوزارة في انتظار عودة الوزيرة من رحلة إلى الخارج لإعلان هذه النتائج! ومع أن موضوعاً بهذه الخطورة لا ينبغي تأخيره دقيقةً واحدةً بسبب غياب فلان أو حضور علان، فالراجح أن الشاي الصيني المستورد لبلادنا ملوث بالمبيدات والمخصبات الكيماوية السامة، خاصة أن تجارنا ومعهم الصينيون يعلمون جميعاً أنه ليست لدينا أي رقابة صحية غذائية، كما أن هناك اتهامات متكررة للشاي الصيني المستورد بالتسبب في معدلات الإصابات القياسية بالأمراض السرطانية في بلادنا. ولهذا أيضاً قيل إن كبار المسؤولين والمستوردين ورجال الأعمال يتجنبون شربه لمعرفتهم بهذه الحقيقة، وأنهم بدلا منه يشربون الشاي المستورد إلى بلدان تفرض قيوداً صحية ورقابية شديدة على كل وارداتها من الأغذية والأدوية والأشربة، كما هو حال بلدان الاتحاد الأوروبي التي تستورد هي أيضاً الشاي الصيني، لكن وفق شروط صحية صارمة، وفي علب مزودة بنشرات تحتوي على كل المعلومات المختبرية، الصحيحة والدقيقة، حول مادة الشاي المعبأة داخلها.. بعيداً عن ترك السوق لتجار مولعين بالأرباح ولا يعبؤون بالأرواح!