زعموا أن قد اعتزل سدوم../ عبد الله محمد

 

.. قال بعضهم هو بين البقاء والاعتزال مراوح، ولعل به حاجة تعيده ان غادر!!
قلت: ما كان سدوم تيفايَ فنٍ وما كانت ديمي قينة إطراب؛ وإلا لكان اليوم اغنى الاثرياء من تلك الصنعة! ما كان غير ما قد كان: صوتا يسع الجميع اغنياء وفقراء وبين ذلك حالا، وفنانا من بيئة صيغ في ربوعها مفهوم اتكنتي.
كل ما يردده المتأوهون وجْدًا ويطرب به المنتشون سماعا ويستودعه بكاة الطلل اشجانهم ويصوغ به المحبون عبارة بنفسجهم من هول سدوم؛ كل ذلك لم يكن سلعة فنان يديرها تكسبا في كرنفال ولا استثمار في ملكة ابداع؛ حتى يقال اعتزل او عاد ليكسب!

بلغ سدوم في انفس المراتنة ان صار إسماعُه للضيف قِرى في حد ذاته؛ ولقد رأيتنا ونحن شباب مغتربون اذا فاجأنا الضيفُ من بني وطننا وتعذرتِ العجلةُ بقرى الضيافة لقلة الدرهم، أدَرْنا ما تيسر من مسموع سدوم فجَبَّ صوته كلَّ حرج في عدم تقديم شيء للضيف وقت قدومه وسدت رداتُه كلَّ فُرَج الخلل وشُرِب ماءُ قصورنا في الاكرام في لبن سعة سدوم في الابهاج صوتا عن ظهر غيب؛ فكان الاجماع عُرْفًا ان من قدم عليك فأسمعته مقطعا من "عيد المولود" مثلا واسقيته كأس أتاي ولو سقط نعناعُه واختلت جيم منه ثلاثته، فقد حيزت له دنيا الضيافة وكُفيتَ مؤونته وجدانًا وحفاوةً وذكَرَكَ بذلك في ملأه ان عاد اليهم.

الاعتزال مصطلح يناسب من كان يؤدي أصلا ليكسب المال عبر صنعته او يجمع فتات الشهرة تكلفا، وهو من مفردات الاحتراف المادي لا الابداعي المحض، وسدوم من ذلك براء. سدوم شجرةُ الفن البيظاني التي غطت غابتَه في هذه الربوع من كَلميم الى باماكو ومن وادان الى بانجول ومن اندجامينا الى نواكشوط؛ فلا سبيل للحديث عن تلك الشجرة وكأنها نبتة زينة ابلاستيكية في ركن بازار لبيع الديكور الأخضر!

اما الاعتزال بمعنى الترك أداءً فله ان يكون ايضا ان شاء؛ فلقد بلغ سدوم مراتب من لا يضره ما فعل بعده ولا يخشى في حقه التبخر من ذاكرة اجيال لا تنفك تتسع اقطار دوائرها؛ ولقد رأيت على هذه المنصات الشاهدةِ على الحال الجمعي، جامعةِ الاجيال والثقافات والأذواق، رأيت الغض اليافع ذ "التبيب" موضةً مُنزِلَ السروال هلبَبَةً يجمعه فنُّ سدوم تقديرا له في الذائقة مع الكهل ذي اللثام الأحمد-حمدي وذي سروال لكشاط النسعة محكمِ التجعيد في "دَرْمه"، متعَهَّد "الدجمي" ل"دلوه"، وقد بلغ منه الصلع مبلغ الرطوبة من جدران سوكجيم سيتي ابلاج: فلا تدري كيف للجيلين المختلفين ثقافة وذوقا ان تآلفا على مشترك فني كهذا! ما رأيت اجمع للمراتنة في باب الايجابيات من ثلاث : الدين خلفيةً، الأتاي عادة استهلاك وثقافة مجلس، وثنائية سدوم-ديمي.

ما كان سدوم تيفاي فن وما كانت ديمي قينة طرب ..

كان المار من شارع اكلينيك - ايام الزمن الجميل -كالمار من شارع برودواي في نيويورك؛ قبل ان يتحول الشارع لقمامة وبازار تجاري مكدس لاحقا. كان الشارع كذلك لتوارد صوت سدوم وديمي عبر ابواق باعة فنِّهم المجاني غير المتبوع بمن ولا أذى مطالبة بحقوق ملكيته؛ وكنت ترى العابر يبدأ من مطعم "الزهراء" غربا فينتقل في مراتب آزاي من اكحال كر حتى يبتِّتَ عند مطعم "زبيدة" شرقا؛ فتسمع للبوصيري ومحمد ول آدبه ونزار؛ حتى ان الشارع ذاك كان التجوالُ عبره نوبة سماع عبر اثير عام متنوع المضمون. كل ذلك كان انتاج سدوم ؤديمي غير المباع ولا المتكسب منه، ولو ارادوا منذ ذلك الوقت لكسبوا ثروات وركموا كنوزا وركبوا الفاره من العربات ولأعيوا طالبي خدماتهم في المناسبات تكَبُّرًا وغرورا بالماديات، لكنهم خلاف لذلك؛ بقوا على ملتهم منحدرين من ثقافة قومهم الاكنات الناحية منحى الترفع عما يفهم منه الحرص على المادة او البخل بما لدى المرء مما يسع الآخرين اسعادا واكراما. 

حكى الثقاة، والسند هنا من العوالي بمصطلح الحديث فأنا شاهد على العصر والاتصال متحقق، حكوا ان ديمي، رحمها الله تعالى وتجاوز عنا عنها وابدل سيئاتنا وسيئاتها حسنات، اتاها رجل فقير رث الحال وذكر ان له زوجة طلقها وهو منها ذو عيال، ثم انه اراد الرجوع فطلبه فأبت تمنعا ومناكفة تحدي إلا بشرط معجز لمن هو في حاله فقرا وهامشية: فاشترطت ان تأتي ديمي لتزفها في رجعتها!

سمعت ديمي مقالة الرجل المتلعثم المكروب وبادرت بطمأنته وعدا منها بالقيام بذلك؛ وهو غير مصدق الأمر دهشة وفرحا ممزوجا بالترقب. ثم ان ديمي بعد ذلك اختلفت الى السوق فاقتنت ما يناسب الظرف من ملابس للسيدات واكسسوار ومعونة للرجل وقدمت حيَّه الهامشي وادت الوصلة وسط دهشة الجيران وغبطة الزوجة المتمنعة ذات الشرط المعجز!

تلك طينة آل ايده وآل آبه في آل فنون الموريتنيين: بُعْدًا عن تمحض المادية في الفن او جمع الثروة عبره، ولذلك بقي ذكرهم في القلوب ونغمتهم في الوجدان، فلم يخلو تعاطيهم يوما من بصمة خلفيتهم الاجتماعية التكَانيتية التي هم منها بمنزلتها منهم حبا وتقديرا واعتزازا وتَعَوُّد نبلٍ ليس متكلفًا؛ هم "اولاد حلة" وليسوا مطربي تسكع في سيرك.

قد يعتزل سدوم اداءً -إن حصل ذلك فهو حق له- ولكنه لن يعتزل بقاء في الذاكرة الوجدانية الجمعية، وقد يعود بعد اعتزال وهو بذلك غير مذبذب ولا مراوح مكانته فقد تجسدت فلا تخشى التقلب والتقادم ما انشد المنشد "أهاب سحيرا"، وترنم الموريتني في غربته وقد خلص الى ثالث الكؤوس "رفاقي الظاعنين متى الورود"، وما اقامت زينب الوجدان بأبرق الحنان وتسوؤل عن الحنين اليه! 

من يحسب سدوم مطرب مال او جامع شهرة يخشى عليها فقد جعل العندليبَ ببغاء سيركٍ يعلَفُ ليصدر صوت تقليد!! 

وقبل ان اختم اكرر عبارة سبق لي ايرادها في مكتوب سابق عن الرجل: فلقد اقتبست حينها من كَاف ول سعيد ول عبد الجليل في منت البار؛  فأقول إن سدوم اللا سدوم ؤتوف، وإن المطربين منه منزلةً ك"الناثِ" من "منت البار" في كَاف ول سعيد ول عبد الجليل في قوله "منت البار اللا منت البار -- والناث لخرات الناث" 

لو لم يكن لسدوم إلا تلك الثواني التي قال فيها ".. وبأبرق الحنان منزل زينب -- أفلا تحن لأبرق الحنان"، لكفته اسعادا عابرا للأجيال!!

لقد كانت تلك "الرَّدة" شُرْفةً لكل "ذي أبرق حنان" حن .. لو تعلمون! (اقتطعتها معزولة من شريط كله عذب، اقتطعتها منفردة لمنزلتها لدي ووضعت عليها صورته؛ تجدونها في الفيديو المرفق)

ومن قال بترك سدوم لإسعاده الناس بالهول دون عجز مقعد، لا يعلم حقيقة الرجل حفظه الله من كل شر .. وما ورد من اخبار تلقفها النقلة، بعد تتبع الخبر، و ما اثير من اعتزال مرده فهم وتأويل خاطئ لطلعة حكاها سدوم عن نفسه في مناسبة استضافته:

نيغ عدت الهول انخليه --  عني هاذ  لنوب بيه 
عاكب سدات زاهد   فيه --  أعاكَب ديم  والخليفه
أكبر  من عدت اماسيه --  اشكاره لعمار  أكصيفه
مات جلي مطلوص اعليه -- مستن  هاك اتشكريفه
دون  توف  ألا  ما   نبغيه -- حظ  مني عاد العيفه

غير  الليله  لازمني  عار -- عدت الهول أبحْسن صيفه
مخلاه ال هول أفدار -- الولي ول الخليفه

ؤعندي عن ترك سدوم للهول ولإسعاد الناس به؛ اللا ماه ابعيد من ترك كَط سوقيتُ آن اعل راصي في شأن التطفل اعل لغن وأني تاركه، فأوردت نتيجة ذلك العزم الذي لم يتبلور في كَاف ستة :

ڭَايلْ عنِّ مِن شِ مَسْبُولْ -- تبْت امْن البَدْع المُلاَنَ
غَيرْ البدْع اِبَان ابْلَمُولْ -- عَندُ عَن ذَاكْ افـلـڭْزَانَ
وَلّاخايف لِلْبدْع انڭُــولْ :  -- تُوب الْـمُلاَنَ من يَانَ!
#إلذاك