"أدباي" /إسلكو أحمد إزيد بيه

 

في الظرف البشري الذي أفرزه تفاقم  الطابع الاستعجالي والدرامي للحياة المعاصرة،  يصعب على المرء  توفير الوقت والهدوء الكافيين لقراءة الكتب الأدبية لذاتها. وتتحول الصعوبة إلى شبه استحالة بالنسبة للهواة...
معذرة مسبقة لكل من يعتقد أن في هذه الدنيا أشياء مفيدة ومتنوعة تغني عن الاهتمام بالسرد الأدبي بشكل عام وبغرضه الروائي بشكل خاص. فالرواية الجيدة رحلة تأخذ بيد القارئ إلى  حيث "صدفات" اللغة والمفاهيم والأساليب والأفكار والحكمة، مع خطر الارتطام، من وقت لآخر،  بصخرة إديوليوجية أو ثقافية فضل االكاتب تجاهلها أثناء عملية التمهيد، أو لم ينتبه إليها أصلا أو جلبها لحاجة ما.
إن الحديث عن عمل أدبي ما يعزز من وجاهته ويخدم "رسالته" الرئيسية. 
عندما أهداني أحد الأصدقاء مشكورا كتابين، أحدهما بعنوان "أدباي" للشاعر والكاتب "الشيخ نوح"، قررت قراءة هذه الرواية لمبرر رئيسي وسبب ثان واعتبار ثالث قد يحسبه البعض ثانويا. أما المبرر  الرئيسي فموضوع الرواية (الرق) الذي يشي به عنوانها اللهجي المقتضب ؛ أما السبب، فيتعلق بتشجيع القراءة التي تختزل الحواجز  العرقية والشرائحية والفئوية داخل المجتمع الموريتاني؛ أما الاعتبار، فشعور دفين بالذنب حيال التقصير في قراءة الروايات باللغة العربية لكتاب موريتانيين. 
بمجرد الشروع في قراءة "أدباي"، شعرت بحرج حقيقي حيال فارق السن بيني وأبطال الرواية ؛ وعلى الرغم  من "عذرية الخيال" لدى الكاتب الشاب، فقد كان من الصعب علي مسايرة أبطال القصة في بعض المواقف، لذا فكرت جديا في عدم مواصلة قراءة الرواية. إلا أن جزالة لغة الكاتب وثقافته الموسوعية وخلفيته الفلسفية وروعة مقاطع الشعر الحر (على ما أعتقد!) التي كان يبدأ بها كل فصل من الرواية وموضوع الرواية، أقنعتني مجتمعة بمواصلة القراءة.
دون إفشاء سر كبير، يهتم الكاتب بتأسيس قرية  "أدباي" وتفاصيل حياة سكانها وعلاقتهم بمحيطهم، معتمدا مسطرة وصفية وتعليلية كنت سأوافق على جل ما ورد فيها لو لا التبسيط المفرط (الثنائية) الذي طبع جزءا معتبرا من طرح الكاتب؛ يُحسب للكاتب أنه استدرك مرتين، فأكد: " ... ولكن الخلل دوما في تفكيك الظواهر الطافية على السطح والتي لا شك أن تفكيكها يعطينا أحكاما أخرى تختلف عن الانطباعات الأولية. أحكام ستكون حتما أكثر بعدا عن الاختزالية وأكثر نسبية وأقل اعتمادا على المعايير (...) المتغيرة حسب الزمكان" (ص.104). واستدرك ثانية عندما لاحظ: "(...) نعم لقد عاش أربعة عشر عاما يعمل في مصنع للألبان في كاتلونيا؛ وامتزج مع مختلف الجنسيات والأعمار والثقافات فصُدم كثيرا في العديد من قيمه وثوابته ؛ وصَدم هو آخرين أيضا في القيم والثوابت نفسها؛ وأنتج هذا التفاعل شخصية سيدي الجديدة في نسخة أكثر هدوءا ، ولكن أكثر عمقا وشمولية في نظرتها إلى الأمور ؛ وأكثر تعلقا بمبادئها وخياراتها دون تزمت." (ص. 254). 
وإذا كان لا بد من إبداء ملاحظة شكلية يتيمة، فلعلها في الصفحتين 234-235، حيث ورد: "هنا رفع سيدي أصبعه طلبا للكلام ؛ وكأنه أمام سيِّدي في مدرسة أدباي." و المقطع:"حينها تذكر سيدي كيف كان يربَ يوقد النار في الحقل عندما لا يعثرون على علبة كبريت أو قداحة، صحيح أنه لم يجرب تلك الطريقة لكنه سيختبرها الليلة". أعتقد أن الأمر يتعلق ب-"موسى"، بطل الرواية الرئيسي.

إن الإشكالات الاجتماعية الجائرة والمتجذرة تاريخيا والمنتشرة جغرافيا والمعقدة بشريا، لا يتأتى حلها بمنطق إلقاء اللوم بشكل حصري على فئة اجتماعية بعينها أو تخوين الدولة أو اقتراح مهدئات "مادية". 
كمهتم قديم (راجع الوثيقة أسفله) بالحقل الحقوقي في هذا البلد، أود التأكيد على وجاهة النظرة الديناميكية لإشكال الرق ومخلفاته داخل المجتمع الموريتاني، فالأجيال الموريتانية الحالية لم تعرف الرق التقليدي ولم تمارسه، رغم إمكانية وجود شذوذ (تأكيدًا للقاعدة) تجب مجاربته. أما الدولة الوطنية، فساهمت وتساهم في عصرنة المجتمع، مع التفاوت المشروع لآراء الموريتانيين بخصوص جدية ونجاعة الجهود العمومية المتلاحقة في هذا الصدد. ويستحق علينا هذا الوطن أن نعترف بحقيقة مجتمعية لا جدال فيها: كل موريتاني يحمل في جيناته الوراثية مبررات التعامل مع مواطنيه كإخوة وأرحام... 

ملاحظة: رغم التحفظ العمري و"الثنائية" التحليلية، فإنني أشجع على قراءة رواية "أدباي" للكاتب والشاعر "الشيخ نوح".