العدالة الموريتانية تنتصر في مواجهة حرب الشائعات
خلال الأسبوع المنصرم واجه الرأي العام الموريتاني «حرب شائعات» منظمة، استخدمت فيها «الدعاية الرمادية» للتأثير على نفسية الإنسان، ولخلق حالة من «القلق» حيال الوضع الصحي للرئيس السابق، وتكريس «انعدام الثقة» في العدالة الموريتانية.
اتضح أن الهدف من الحرب هو ضرب مصداقية العدالة في الصميم، وذلك للتأثير على عملها وقراراتها، ولكن يمكنُ القول إن العدالة نجحت إلى حد بعيد في تسيير الوضع، والخروج منه بكثير من التوازن والمهنية.
لقد نجحت العدالة في الاختبار حين فصلت القرار الطبي عن المسار القضائي، وسهلت كافة التعقيدات الإجرائية التي تفرضها المسطرة والنظم القانونية، على سجين احتياطي في ملف يمكن وصفه بأنه الأكثر تعقيدا في تاريخ القضاء الموريتاني.
كما نجحت العدالة حين غلبت الجانب الصحي والإنساني على كل الجوانب الأخرى، دون أن ترضخ للابتزاز الذي مورس عليها، من طرف عدة لاعبين في الملف، بعضهم مرئي مثل فريق الدفاع، وآخرين غير مرئيين.
ثم إنه في الوقت الذي كان القضاء الموريتاني يتعامل مع الملف بقدر كبير من الحساسية والمهنية، كان فريق الدفاع عن الرئيس السابق متورطا في «حرب الشائعات» ويذكيها بشكل دائم، ومنذ الوهلة الأولى.
بدأت هذه الشائعات مع نقل الرئيس السابق إلى المستشفى العسكري، وحين كانت المعلومات شحيحة حول وضعه الصحي، حتى لدى الأطباء المشرفين عليه، الذين لم يتوصلوا بعد بنتائج الفحوصات أحرى أن يقدموا أي تشخيص طبي لحالته، حينها كان المحامي المحترم محمدٌ ولد الشدو يقدم تشخيصه الخاص: «الرئيس السابق مصاب بجلطة».
بل إن المحامي ذهب أبعد من ذلك حين حدد أسباب المرض، فأرجعه إلى «ظروف السجن»، نازعا عنه سترة المحامي السوداء، ليرتدي معطف الطبيب الأبيض، فانتشر التشخيص «الشائعة» في أوساط الجميع، وتبناه بعض أفراد عائلة الرئيس السابق ودافعوا عنه بشدة، رغم عدم وجود أي رأي طبي يدعمه.
فتحت الشائعة الأولى بابا واسعا من الشائعات انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ساهمت بعضُ المنصات والمواقع في تعزيزها ونشرها، ليجد الموريتانيون أنفسهم أمام دفق لا نهائي من المعلومات المرتبكة والمربكة.
في خضم كل ذلك، كان فريق الدفاع يستخدم مصطلحات من شأنها أن تزيد الارتباك، على غرار اتهام العدالة بمحاولة «التصفية» وبأنها تقف وراء «خطة تدميرية» ممنهجة ضد الرئيس السابق، وأنه «لا يجد الرعاية» وترك للموت.
وقدم فريق الدفاع في هذا السياق بعض المعلومات المغلوطة على أنها حقائق، أولها أن الرئيس السابق «لم يكن يعاني من أي مرض»، وفي نفس الوقت يعترفون بأنه طلب لقاء طبيبه الخاص أحمد ولد ابَّ، أخصائي أمراض القلب المعروف، الذي أشرف على علاجه طيلة الأيام الماضية بانتداب من السلطات القضائية.
إن متابعة الرئيس السابق مع أخصائي لأمراض القلب، ووجود ملف طبي عنه لدى هذا الأخصائي، يؤكد أن مؤشرات دفعته لذلك، وهو الذي عانى لسنوات من تبعات الرصاصة الشهيرة، التي أصيب بها قبل قرابة تسع سنوات.
ربما لم يكن المحامون على علم بذلك، فليس من طبع الرؤساء والضباط أن يكشفوا أسرارهم الصحية بسهولة.
كان واضحا أن هيئة الدفاع تستغل الوضع الصحي للرئيس السابق، حتى تحقق مكاسب خاصة وتلحق الضرر بالقضاء، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة، وبالتالي أقحمت السياسة وحشدت الناس أمام المستشفى، وبدا وكأن هنالك خطرا على حياة ولد عبد العزيز غير المرض الذي يتولى الأطباء علاجه.
إن خلق هذه الفكرة ومحاولة ترسيخها في أذهان الناس، كان مغامرة كبيرة تنطوي على قدر من المخاطرة، أسفر عن ظهور خطابات قبلية وجهوية تدعو إلى مواجهة الدولة، وتحيي نزعات جاهلية لا تتماشى مع مفهوم الدولة الوطنية.
لقد كان في ذلك لعبًا بالنار.. ومثل هذه الأفكار فتاك ومدمر، إنها قنابل يتطلب تفكيكها مستوى من الحرفية والدربة، والكثير من الهدوء والثقة والتوازن.
وذلك ما نجحت فيه العدالة الموريتانية، حين اتخذت عدة قرارات تلخص مسار الملف، بعيدا عن زخم الشائعات، منذ نقل الرئيس السابق إلى المستشفى وبشكل فوري حين أصيب بالوعكة عند الساعة الثالثة فجرا، وعدم انتظار أي تعقيدات إجرائية، ثم عرضه على الطبيب الذي حدده، وانتداب فريق طبي مختص للإشراف على علاجه.
كما يحسب للعدالة وفريقها الطبي أنها كانت تأخذ برأيه في كافة مراحل الفحوص والعلاج، وقررت تحمل كافة التكاليف المالية لذلك.
وفي النهاية جاء قرارها منحه الحرية المؤقتة ليقضي فترة نقاهة صحية في بيته، حيث سيخضع للمراقبة القضائية، وذلك بناء على توصية الفريق الطبي المشرف عليه في تقريرهم الختامي.
أعتقد أن هذه القرارات تلخص بشكل واضح، تعامل العدالة الهادئ والمهني مع الأزمة، رغم ما تعرضت له من شائعات متلاطمة، كان الهدف منها أن ترتبك وترتكب أخطاء مهنية.
لقد نجحت العدالة حين قامت بعملها دون زيادة أو نقصان.
بقلم: محمد يحي المصطفى