الكُتبي و"وڳاف" الكُتب../ أحمد سلمان

المكتبيون أو الكتبيون لهم تاريخ حافلٌ في التاريخِ الإسلامي، و ذكر حسن في كتب التراث، زينوا مدائن الإسلام الكبرى كبغداد والبصرة وسمرقند، ودمشق ومصرَ، وأرض الحجاز، والمغرب الإسلامي، كانت حرفتهم نسخ الكتب، وصفها وتجهيزها، وكل ما يتعلق بالكتاب من إيجاد آلات الوراقة، وضرورياتها، كبري الأقلام واختيارها بحذق، إلى صناعة الورق، وتهيئته، بز من هؤلاء صفوة أعلام وشخصيات لهم مكانةٌ منيفة ومنزلة شريفة في تاريخ التحضر عند المسلمين من أمثال الأديب أبي عمرو الجاحظ صاحب (البيان والتبيين) و(حياة الحيوان)، وغيرهما، وياقوت الحموي صاحب (معجم البلدان)، وابن شاكر الكتبي صاحب (فوات الوفيات).. والقائمة طويلة.

فما هي الكُتبية أو الوراقة؟ و

يُعرف السمعاني في كتابه الأنساب الوراقة أو الوراق أو المكتبية بأنها (اسم لمن يكتب المصاحف والكتب) ثم يضيف (وقد يُقال لمن يبيع الورق -وهو الكاغد- ببغداد الورَّاق أيضا)، بينما يسميها الفاسيُّ بالنِّساخةِ وهي أقرب إلى مصطلح الكتبيين فيقول: (النساخة حرفة النسخ، ومن جعل النسخ حرفة أو شغلاً يشتغل به لنفسه فهو نسّاخٌ ووراق أيضاً)، وينظر إليها صاحب المقدمة عبد الرحمن ابن خلدون نظرة أشمل من ذلك وأعم.

 أما الكتبيون في هذا الزمان، فهم المهتمون بالكتب جمعاً وطباعة، وتجليدا،وبيعا، وهذه البلاد وإن شهدت في مرحلة من تاريخها اعتناء مبكراً بالكتب، شمل النسخ والتجليد والزخرفة والتذهيب، والتهذيبِ، وإعداد الصناديق وكافة وسائل الحفظ والتخزين، إضافة إلى وجود مكتبات عريقة، جمعت إلى تراثِ المسلمين القادم من المغرب والمشرق، تُراثَ الشناقطة الذي خطته أيديهم وأنتجته قرائحُهم، وأسهم في رعايته الصناع التقليديون بدور أكبر؛ بالرغم من ذلك كله فإن بلادنا لم تشهد الوراقة كحرفة ذات مكانة بارزة في المجتمع، نظرا لانعدام التحضر، أو حصره على مدن معينة ومناطق محدودة، فقد كان المجتمع الموريتاني القديم مجتمعَ بداوةٍ وانتجاعٍ، لا يَقر له قرُار أو يُلقي عصى التسيار، وهذا ينتناقض مع حرفة من شأنها الثبات والإقامة، وتقضي عليها عوامل البداوة المفتوحة التي لا تعرف الحفظ والرعاية، وتعترض طريقها حركة الطبيعة التي لا تتواءم وعالم الكتب..

ظل هذا النشاط خافتا ضعيفا وقاصرا على بعض الأسر العلمية، حتى إنه مع تأسيس الدولة وتوطن الناس في المدن، وانفتاح المجتمع على العالم، لم تشهد المدُنُ الرئيسية في البلد وعواصم الولايات –إذا استثنينا انواكشوط- مكتباتٍ كبيرةٍ ذاع صيتها، ولا اتجه المجتمع إلى العلم اتجاها حقيقيا قادرا على خلق حركةٍ ثقافية تستطيع أن تؤسس لحاجيات جديدة، إلا في حدود معينة، ظل الكتبيون فيها على حالٍ لا يختلف كثيرا، عن طرائق باعة المواد الغذائية في التعاطي، وأساليبهم في البيع والشراء بل الأخيرُ أكثر تطوراً وأقدر على مسايرة الزمن، فتجد أمام أغلب المكتبات رجلا يقف في مجموعة من الكتب غريبة عليه، وهو غريب عنها، يجهل عناوينها تمام الجهل، ولعل أبرز عامل في غياب الأسواق الشعبية لبيع الكتب، هو إلحاح أمور أخرى تشغل بال الموريتاني، ولا يجد لغيرها مكانا في حياته، هذا بدوره أسهم في قلة المكتبات، وبالتالي غياب دور الكتبي وبروز الوڲاف، فما الفرق بين الاثنين؟.

الفرق بين الكتبي و"وڲاف الكتب" أن الأول بائعُ تجارة يعرفها، ويدرك قيمتها، ويحمل بين جنبيه حبا وشغفا يحفزانه إلى إبداع طرائق جديدة في البيع والترويج، وفهم وإدراك حاجات الناس، وأغراضهم، يُرشد المبتدئين، ويوجهم، ويربطهم بعوالمه، ويستطيع بحسه المرهف أن يكسب كل يوم زبونا جديدا، أما الثاني فهو بائعُ بضاعةٍ ينظر إلى ما تدره عليه من أرباح، ولو كانت زهيدة، حسبه ذلك، ويكفيه.

"وڲاف الكتب" هو شخصٌ واقف ثابتٌ والزمن يجري، والدنيا تتغير من حوله، فتسبقه الأجيالُ ولا يستطيع مسايرتها، تحكمه سنن الجشع وحب التمول، وأدهى الدواهي أنه لا يعرف الكتب التي يبيع، وهو عاجز لجهله عن تطويرها حسب رغبات زواره، وفق طلباتهم.

أغلب باعة الكتب في هذه البلاد، لا علاقة تربطهم بالسواد الأعظم من أجيال اليوم، وكثير من المراجع والعناوين التي يحتاجها الناس، من طلبة الجامعات والعلماء والباحثين لا وجود لها في مكتباتهم، أما معالجة الكتب بتجليدها وإعادة تصويرها، واقتناء النسخ العتيقة والطبعات النادرة والمؤلفات الجديدة، فهذا عالم آخر لا تصل إليه عقول الكتبيين الموريتانيين.

وتتحمل الدولة والجو العام قدرا كبيرا من المسؤولية، فلو شجعت الدولة على إنشاء دور للكتب او دعمتها، ويسرت الطباعة، ودعمت الكتاب الموريتاني أولا ونزعت الجمركة عن الكتب المستوردة، ثم أقامت معارض للكتاب ويتم من خلالها استدعاء دور معنية لتملأ الفراغ، وتخلق تنافسا حميدا يعود صالحه للوطن، ولو نمَّت وسائل الإعلام ومؤسسات التوجيه والتربية أهمية القراءة لدى الأجيال لمكن ذلك –دون شك- من توفر جو جديد للباعة والكتبيين يستطيعون في خضمه تطوير بضاعتهم، لكن السوق الثقافية هنا كاسدة، والكساد لا يلد حركية ولاهم يحزنون.

بناء تاريخ ثقافي دون القراءة، وضرب الميزانيات المنفوخة في عرضِ الأشياء الوهمية أو الثانوية، أهم منه خلقُ جو معرفي عام، يستطيع أن يبني صرحا حقيقيا في دولة تحرتم نفسها، ولا تمثل سياسة التجهيل هدفا لها وغاية..

ينبغي أن نعلم يقينا أن الكتاب لا يموت، والقراءة حتم لازم لا يُستطاعُ دونها رقي، ولا يمكن ازدهارٌ البتة، ورغم قدم الكتاب الورقي وأصالته، لم تستطع تكنولوجيا اليوم الاستغناء عنه، إنما استحدثت طرائق جديدة وأساليب حديثة تعزز من حضوره، ولازالت المطابع على حالها تطبع وتبيع وتتتنافس في ذلك، والمطروح اليوم في الأمم المزدهرة ليس البحث عن بديل للقراءة، بل أساليب أكثر راحة للقارئ، وأسرع في تحقيق النفع.

وهذا يغيب عن كثير من أمم الفقر العلمي، والانبهار بالمظاهر والشكليات، على حساب الحقيقة والمعنى.

وأي أمة لا يأخذ الكتاب من وقتها قدرا معتبرا، أو يحتل مكانا مكينا من أنشطتها اليومية تحكم على نفسها بالفشل، ويروج في سوقها المتزببونَ، والمتعالمون، وأنصاف المثقفين من أهل الحول والعمى، وينفق في سوقها الكَتَبَةَ التَّفَهَةُ، الثَّرْثَارُونَ، فيغلب المُؤَلَّفُ الزنيمُ الذي لا أصل له في دنيا المعرفة.. نفائسَ ذات قيمة ومعنى، ومُبْتَدَعَاتٍ تُضِيفُ جديداً وتُحدث فرقا.

تلك الأمم السالكة هذا المسلك يُغَيَّبُ فيها أهل العلم لغياب معناه، ويبور الإتقان، وتذهب الجودة إلى غير رجعة، لأن مدار الأشياء على القيمة، وكل الأهمية لها، إذ عليها تتغذى الأجيال غذاء متكاملاً صحيا، قابلا للهضم الطبيعي، وبها تنمو الافهام وتتبارى العقول وتنضج، ويجد الناسُ شيئا يضيف إليهم جديدا نافعا..

الإسفاف سهلٌ، والتسطيح لا يكلف كبير عناء، لكن عاقبته وخيمة، وجراحه عميقة، وأثره كارثي على الفرد والمجتمع؛ في النظر إلى الأشياء والحكم عليها، وفي تشكيل المواقف واقتراح الحلول..

المسفُّ لا يحمل فكرة، ولا ينطلق من وجدان حي، أو ضمير زكي نقي، وحين تغيب الأفكار يخفت نور الإنجاز وتبقى المجتمعات في التقليد تتخبط خلف أبي جهلٍ وطَبَّالته، وهذا ما حدث في كثير من بلداننا للأسف الشديد.