الهيدروجين الأخضر، لتكتمل الحلقة الطاقية دون انبعاثاتات كربونية/د. شماد ولد مليل نافع
بعد أن احترقت أحشاء شبه جزيرة العرب وصحرائهم الكبرى وقودا لتخلق رخاء البشرية, هاهي اليوم, بسمائها الصافية, تمنح الإنسانية ترياقا ضد الانبعاثات الكربونية, من خلال ثنائية الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر, التي تجعل المقدرات الاستثنائية والوسطية الجغرافية واتساع المساحات من المنطقة مصدرها الأهم. في هذه الورقة أوضح علاقة الطاقة بالبيئة, وآليات إنتاج الهيدروجين, وما هو الهيدروجين الأخضر, ودوره في اكتمال الحلقة الطاقية دون انبعاثات كربونية وخلق متنفس للكوكب بعد أن كاد يختنق بآثار عوادم الاحتراق.
الطاقة والبيئة
أدرك الإنسان منذ أن تسنى له التحكم بالنار, وبدأ يتخذ مواقد لاستخدام الطاقة الحرارية الناتجة من احتراق المواد العضوية للطهي والاصطلاء, أن دخانها ضار وكريه, لا يحمله على تحمله إلا حاجته للحرارة و الإنارة. ثم جاء المحرك الحراري لتصبح حرارة الاحتراق طاقة عمل, فتزداد مركزيتها في الحياة البشرية وارتباط الإنسان بها. ثم جاءت الطاقة الكهربائية لتجعل من الاحتراق شريان حياة, يُنقِّصه شعور دائم بأن الغازات الناتجة عنه لا يمكن أن تكون دون ضرر. وعندما تبين العلم ظاهرة الاحتباس الحراري وعلاقته بغازات الاحتراق وتأثير ذلك على الأوساط البيئية ومستوى مياه البحر والتقلبات المناخية, وتكشفت الآثار الصحية لتلوث هواء المدن بالجزيئات الدقيقة, تعاظم الشعور بأن آليات تلبية حاجاتنا من الطاقة مسؤولة عن تغيرات بيئية وأخطار صحية قد تكون نتائجها كارثية. ومع اكتشاف الأضرار الصحية للإشعاع والصعوبات المرتبطة بتخزين نفايات المفاعلات تبين أن الطاقة النووية لا يمكن أن تكون هي الحل, هذا عدا عن كونها تعتمد على عنصر كيميائي محدود الوجود ويتم استنزافه بوتيرة كبيرة, ليتبلور الاعتقاد بأن الطاقات المتجددة, طاقات التدفقات المائية والهوائية والفوتونية والحيوية وطاقة حرارة الأرض, هي الحل.
شيدت سدود كثيرة للتحكم بالأنهار وإنتاج الطاقة الكهربائية من طاقة جريان المياه دون عوادم احتراق, ودون تأثير على صحة الناس أو تسبب في الاحتباس الحراري, ولكننا تبينا أن ذلك تسبب في تغير ظروف حياة كثير من الكائنات وقد يهدد بقاءها وأنه يسهم في انحسار تنوع الأنواع, وبدأ الشعور بأننا نعامل بقية الكائنات في هذا الكوكب معاملة قاسية, وأننا ندمر الأنظمة البيئية بوتيرة تفوق قدرتها على التجدد. استخدمت عنفات هوائية لإنتاج الطاقة الكهربائية من طاقة جريان الهواء ترتفع عن الأرض أحيانا عشرات الأمتار فهي لا تنتج عوادم ولا تدمر الأنظمة البيئية للكائنات الموجودة في المنطقة, ولكن سرعان ما ظهر مفهوم التلوث المرئي وتعاظم الشعور بأن هذه العنفات تشوه المناظر الطبيعية وأنها كريهة الصوت والمنظر. حتى أصبحت حكومات دول الوعي البيئي تتربص, كعظاءة الرمال الحارقة لصحراء نامبيا, لا تعرف على أي رجل تقف.
أصبحت الطاقة الشمسية هي الطاقة الوحيدة التي تسلم من انتقادات ناشطي البيئة ومحبي بقاء المناظر الطبيعية خالية من عبث يد الإنسان القاهرة. لكن الطاقة الشمسية طاقة نهارية, يختلف تدفقها من ساعة لأخرى, ومن يوم ليوم تبعا للأحوال الجوية. هذا التأرجح والتقطع لا يسمح بتلبية حاجات الناس من الطاقة التي تتأرجح بوتيرة مغايرة. ولنتمكن من تلبية حاجاتنا من خلال الطاقة الشمسية دون اللجوء إلى مصادر الطاقة المسؤولة عن التلوث فإننا يجب أن نحولها إلى شكل من أشكال الطاقة القابلة للادخار والتي لا تنتج ملوثات بيئية عند استهلاكها, لنتمكن من استخدامها وقت الحاجة, وهنا تكمن أهمية الهيدروجين, فهو طاقة كيميائية يمكن ادخارها ولا ينتج ملوثات عند استخدامه.
الهيدروجين الأخضر
الهيدروجين عنصر كيميائي هو الأول في الجدول الدوري للعناصر, فلا تحتوي نواته إلا على بروتون واحد وله ثلاثة نظائر*. يعتبر الهيدروجين مع الهليوم من اصغر العناصر حجما وهو أخفها على الإطلاق وسنعرف أن لهذه الخفة انعكاساتها. كلمة الهيدروجين - والتي تعني باليونانية مولد الماء لأنه تبين عند اكتشافه أن الماء ينتج عن تفاعله مع أكسجين الهواء - هي اسم العنصر الكيميائي أي ذرة الهيدروجين ولكنها تطلق تجاوزا على غاز ثنائي الهيدروجين H2 وهو الذي نقصد في سابق النص ولاحقه. والهيدروجين غاز لا يوجد في الغلاف الجوي للأرض إلا بنسبة تكاد تكون معدومة )أثر(, والسبب في ذلك هو أنه لخفته لا سلطان للجاذبية الأرضية عليه, فهو بجدارة اسبارتاكوس الغازات متحرر من أغلال الجاذبية. وذلك لأن سرعته عند درجات الحرارة القائمة في الطبقات العلوية من الغلاف الجوي تفوق سرعة التحرر من الجاذبية الأرضية, فهو يتسرب من الغلاف الجوي للأرض بوتيرة 3 كيلوغرامات لكل ثانية**.
يعتقد الكثيرون ويرددها بعض الخبراء الذين لا يأخذون الوقت لتحقيق وتحيين معلوماتهم أن غاز الهيدروجين لا يوجد طبيعيا على كوكبنا, وهذا غير صحيح. فإنه وإن كان لا يوجد في الغلاف الجوي إلا أثرا كما بينا, فإنه يوجد في القشرة الأرضية لا شك في ذلك. وهو يَنتُج عن تفاعل الماء مع الحديد داخل الصخور الرسوبية الفقيرة أو الخالية من المواد العضوية. ويعود سبب خلوها من المواد العضوية إلى تاريخ تشكلها. وهي تشكيلات جيولوجية لم تخضع للكثير من الاستكشاف لأنها ليست مظنة للنفط لفقرها بالمواد العضوية, هذه آلية من آليات تشكل الهيدروجين الطبيعي وقد توجد آليات أخرى يعمل المجتمع العلمي والصناعي على فهمها واستغلالها. توجد للهيدروجين الطبيعي اليوم منابع في بلدان كثيرة, لم يستغل منها فعليا إلا مصدر واحد يوجد في جمهورية مالي المجاورة, وقد استخدم لتشغيل عنفة صغيرة لتوليد الكهرباء دون عوادم كربونية. الهيدروجين الطبيعي إذن قطعي الوجود, ويزداد الاهتمام به من طرف الحكومات والمستثمرين والمجتمع العلمي, لكن من غير المتاح اليوم التكهن بكمياته, وإمكانية استغلاله وكلفة ذلك, وتأثيره المستقبلي على سوق الهيدروجين الصناعي وعلى مردودية مشاريع الهيدروجين الأخضر.
يُنتَج الهيدروجين الصناعي, وهو الذي يلبي حاجات البشرية من الهيدروجين لأن كميات الهيدروجين الطبيعي المستغلة تكاد تكون معدومة, بعدة طرق من أهمها الإصلاح البخاري لغاز الميتان ويُنتَج بهذه الطريقة ما يقارب %70 من الهيدروجين المستخدم اليوم. ويتم ذلك من خلال تفاعل غاز الميتان مع بخار الماء عند درجة حرارة مرتفعة ليعطي غاز الهيدروجين و أول أكسيد الكربون ثم يتفاعل أول أكسيد الكربون مع بخار الماء من جديد ليعطي الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون. في هذه العملية يستخدم الميتان كمتفاعل وكوقود لتوفير الحرارة الضرورية لهذا التفاعل. ويصاحب كل كيلوغرام من الهيدروجين المنتج بهذه الطريقة انبعاث غازات كربونية تعادل 13 كيلوغرام من مكافئ ثاني أكسيد الكربون, وإذا صاحبت هذه العملية عملية تجميع واحتجاز لثاني أكسيد الكربون الناتج, فإن أثرها ينخفض إلى ما دون 5 كيلوغرامات من مكافئ ثاني أكسيد الكربون. أما الطريقة الثانية والتي يُنتَج بها اليوم ما يزيد على %25 من غاز الهيدروجين فهي عملية تغويز الفحم, ويتم خلالها تفاعل الفحم وبخار الماء عند درجات حرارة عالية لينتج الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون, وهي شديدة التلويث, فهي تُصاحب بانبعاث 20 كيلوغرام من مكافئ ثاني أكسيد الكربون لكل كيلوغرام من الهيدروجين. والهيدروجين المنتج بهاتين الطريقتين يسمى بالهيدروجين الرمادي, فإذا صاحب عملية الإنتاج تجميع واحتجاز لثاني أكسيد الكربون سمي الهيدروجين بالأزرق.
أما الطريقة الثالثة فهي عملية التحليل الكهربائي للماء لإنتاج غازي الهيدروجين والأكسجين وهي في حد ذاتها لا تُنتج غازات كربونية, فيحدد إذن مصدر الطاقة الكهربائية المستخدمة أثرها البيئي. فإذا كانت الطاقة الكهربائية المستخدمة مصدرها الطاقة الشمسية أو الهوائية أو طاقة جريان المياه أو حرارة الأرض كانت عملية إنتاج الهيدروجين نقية, أي خالية من الانبعاثات الكربونية, وسمي الهيدروجين الناتج بالهيدروجين الأخضر. وإذا كان مصدرها الشبكة الكهربائية لبلد ما, حددت درجة نقاء عملية إنتاج الكهرباء في هذا البلد الأثر البيئي لعملية إنتاج الهيدروجين. فمثلا إذا استخدمنا الشبكة الكهربائية في فرنسا التي تُنتَج الغالبية العظمى من الكهرباء فيها من خلال الطاقة النووية - التي مع عيوبها المرتبطة بخطر الإشعاع والحوادث الصناعية المرتبطة به, وعمر النفايات النووية وصعوبة تخزينها, فهي خالية من الانبعاثات الكربونية – أطلق على الهيدروجين الناتج الهيدروجين الأصفر. هذه الألوان اصطلاحية, تعبر إذن عن الأثر البيئي لعملية إنتاج الهيدروجين ولا علاقة لها بدرجة النقاء الكيميائي للهيدروجين المنتج. توجد طرق أخرى لإنتاج الهيدروجين لكنها لا تزال في طور البحث المخبري أو التجريب الصناعي.
قبل أن انهي هذه الورقة أريد أن أبين مسألة أخيرة هي أن الهيدروجين الطبيعي مصدر للطاقة, أما الهيدروجين الصناعي فهو ليس مصدرا للطاقة وإنما حامل طاقي, وهذا يعني أننا للحصول عليه نستخدم طاقة معينة وأن هذه الطاقة تفوق الطاقة التي سنحصل عليها عند استخدامه, حاله في ذلك حال التيار الكهربائي فهو أيضا حامل طاقي. أهمية الحامل الطاقي تكمن في تسهيل عملية نقل أو توزيع أو ادخار الطاقة أو تحولها من شكل إلى آخر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الهيدروجين الصناعي الذي ننتجه اليوم لا يستخدم منه كحامل طاقي إلا نسبة قليلة لأن الغالبية العظمى منه تستخدم كمتفاعل في تكرير النفط, في عملية تنقيته من الكبريت وفي ما يعرف بالتكسير الهيدروجيني للجزيئات الكبيرة إلى جزيئات اصغر تناسب استخدامات معينة, كما يستخدم في صناعة الأسمدة. ولكن جانبا كبيرا من الاهتمام بالهيدروجين اليوم مرتبط تحديدا باستخدامه كحامل طاقي, يتم من خلاله إنتاج طاقة ميكانيكية تستخدم كقوة دفع للسيارات عبر عملية تحول طاقي خالية من الانبعاثات الكربونية ولا تلوث هواء المدن بالجزيئات الدقيقة. ولكن استخدام الهيدروجين الأخضر كمتفاعل لا يقل أهمية من الناحية البيئية عن استخدامه كحامل طاقي, فهو بالإضافة للاستخدامات السابقة, يسمح بتنقية كثير من الصناعات شديدة التلويث باستخدامه كبديل عن متفاعلات أخرى ومن بين تلك الصناعات صناعة الفولاذ, وذلك من خلال استخدامه كبديل لأول أكسيد الكربون في تفاعل اختزال أكسيد الحديد, وهو ما ينتج عنه تخفيض كبير للانبعاثات الكربونية المصاحبة لصناعة الفولاذ والتي تجعل هذه الصناعة من أكبر الصناعات إسهاما في الاحتباس الحراري.
تشكل إذن المشاريع العملاقة للطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر في المناطق الصحراوية المستقبل الطاقي للبشرية, لأنها ضرورة بيئية باعتبارها الآلية الأبرز لمحاربة فعالة للاحتباس الحراري وتلوث هواء المدن بالجزيئات الدقيقة, وما ينتج عنهما من آثار كارثية. ولذلك ستشهد هذه المشاريع قفزة كبيرة في السنوات القادمة في بلداننا, وقد أصبح من الضروري تكثيف التنسيق, وتبادل الخبرات والمعلومات بين دولنا وإشراك المجتمعين العلمي والصناعي لردم الهوة المعرفية بيننا والشركاء لنتمكن من فرض شراكة منصفة, لأن القدرة التفاوضية لكل طرف يحددها مدى اختلال تناظر المعلومات بين أطراف التفاوض وذلك تفاديا لأن تمر المنطقة, أو بعض بلدانها, بمرحلة الاستغلال الجائر التي مرت بها مع بداية إنتاج النفط وغيره من مقدراتها الطبيعية.
-----------------------
)* (تختلف نظائر العنصر في عدد النيترونات داخل النواة. ونظائر الهيدروجين ثلاثة أحدها وهو الأوسع انتشارا لا تحتوي نواته على نيترون والثاني على نيترون واحد أما الثالث فتحتوي نواته على نيترونين وهو مشع يتحول من جراء ذلك إلى هليوم.
)** ( ليس تحرر الهيدروجين من الجاذبية هو الصعوبة الوحيدة المرتبطة بخفته فهي أيضا تصعب تقدير تواجده في المواد الصلبة. فنحن نستخدم تقنية MEB-XPS لتحديد مستوى تواجد العناصر الأخرى وهي تقنية متوفرة في جميع المخابر أما إذا أردنا تقييم نسبه الهيدروجين فنحتاج إلى استخدام تقنية ERDA وهي مختلفة تماما من حيث التعقيد والتوفر. كما أن خفته تطرح مشكلة نقله وتخزينه فهو شديد التسرب وهو ما يفسر أن الكمية المنتجة منه اليوم تستخدم بشكل شبه كامل في أماكن الإنتاج.