في ذكرى رحيل الفقيه الشاب.. محمد يحيى المختار
تمر ذكرى رحيل الفقيه محمد يحيى المختار لتعيد إلى الذاكرة ضخامة المهمة التي كان الرجل ينوء بها وهو في زهرة الشباب ومقتبل العمر وتضفي هيبةً ووقاراً لمن يستعيدُ حجم المعنى الذي حمله الشاب العالم الفقيه، في حياته القصيرة بحساب السنين، العريضة بمعاييرالإنجاز والعطاء، كما تعيد إلينا عقابيل وجع وجراحات لا تندمل، إنها آلام فقدٍ، غيبَ روح شابٍ في مبتدأ العمر كانت المدينة بل البلاد كلها تهيؤه ليكون له الصيتٌ الأوسع، والدور الأكبر والمكانة السامقة بين رجالات هذا البلد الذين حصنوا ذكرهم بالعلم، وأضاءوا جنباته بالعمل، فأشرقَ بالعطاء أعمالا لا تنفنى وذكراً حَسَناً يذكرهم به الذاكرون، هو عمرٌ آخر لا تحجبه الأمكنة ولا الأزمنة، لأن الله خلده بالعلم.
ودع الشاب العالم في قمة انتاجه، وعطائه، يطوف بمساجد المدينة معلما ومربيا، ويعود إلى مشايخه وكتبه وزملائه متعلما ومناقشا، مفيدا مستفيدا، وكأن الشاعر يعنيه بقوله:
ياكوكبا ما كان أقصر عمره /// وكذا تكون كواكب الأسحار.
تعرفت على محمد يحيى خلال زيارتي عام 2013 لمدينة انواذيبو، التقينا حينها في حلقة من حلقات الدرس التي يقيمها الشيخ العلامة عبد الرحمن ولد عابدين اليعقوبي، في محظرته العامرة؛ محظرة عمر بن عبد العزيز، قرب (الرابعة) وكنت يومها أدرس بعض الأبواب المتبقية من الكفاف للعلامة آدَّه عليه رضوان الله تعالى..، وأراجع أول الصباح بعض المحفوظات على الشيخ الداعية الورع محمد يسلم ولد اخطور، ومساء على الشيخ المهدي إمام جامع التقوى.
التقيت بالشيخ محمد يحيى المختار ذلك اليوم الذي لا أنساه، وهو يجلس عن يمين الشيخ عبد الرحمن، ينصت بإمعان وأدب، ثم يعقب بسؤال خفيف لطيفٍ، يفيد الحضور، ويوسع الأنظار والأفهام، والشيخ عبد الرحمن على عادته في التعامل مع الطلبة وسنته في صحبتهم لا يقوم عن مجلسه من حضره، لحسن خلقه وطيبته... وكان محمد يحيى نوارة المجلس والمناقش الأول للشيخ..
في ذلك المجلس التقت أرواحنا وتآلفت قلوبنا من أول لحظة، تبادلنا الأرقام ووعدني بالزيارة، وتوالت اللقاءات أياما، ثم ألح علي بضرورة زيارته في منزله العامر بحي الترحيل..
ومن تلك الحظة كان لعلاقتنا أن تبقى وتتسع وتتوثق كل لحظة وحين، ملأ الشاب الأسمرُ الفصيح المولع بالنظم وتحبير الفوائد، وقراءة التاريخ، ومطالعة السير، ملأ علي ذلك اليوم كله بجميل كرمه وفضله، ونقاشاته العلمية التي شدتني إليه أكثر، وما فيه شيء إلا جدبني إليه وأعجبني فيه، كان يُحدثني عن سِيَر العلماء، وعن خدمةِ الكُتُبِ وتَحْقِيقِها، وتَنَوُّعِ طبَعَاتِها، ثم ينتقلُ بنا الحديثُ إلى المدارس الفقهية المالكية الموريتانية منها أولا، والمصرية والعراقية...إلخ، ولا نترك الحديث عن التيارات الفكرية وتنوعها واختلافها أحيانا، مُسرا إلي أنه لا يتمثل تياراً فكرياً بعينه، ولا يحبس نفسه في أيديولوجيا وإنما يعتمد مذهب التلفيق والبحث عن الحسنات ما أمكن..
كان رجلا متواضعا إلى حد بعيد فقد اعتبرني أخا وصديقا وصفيا، وأحيا في وجداني الحرص لونا من المثابرة ليتني حافظت عليه.
طيلة معرفتي به التي دامت إلى أن توافاه الله، لم أشاهدٌ مستنكفا عن خدمة أحد أوالسعي في حوائجه، كان مثالا للأستاذ المشفق على طلبته وقُصاده في محظرة بحي الترحيل، وكان يطور نفسه، ويوسع مداركه، لا يقف في حفرة واحدة، ولا يطيل الانتظار، ولا يكرر الآخرين، بل هو ذاته التي بين جنبيه، وحركية ثمرة توفيق الله، ثم جهده واجتهاده، وإبداعه.
كان من النوع المحب للكتب شغوفا بجمعها ورقية أو ألكترونية، وأذكر أنه عندما رأى عندي نسخة من (تدريب الراوي للسيوطي) أصر على اصطحابي إلى مكتبة الإصلاح ب (القيران) حتى يشتري نسخته، وكان يعلق عليها خلال مراجعتي لها في مجلس الشيخ ولد عابدين حفظه الله.
في تلك الفترة وطيلة مقامي بالمدينة كان محمد يحيى معي، رفيقا وصديقا، وسميرا لا يمل مجلسه، يعيرني جهازه المحمول، يدفعني إلى التدريس والمراجعة للطلبة، يصحبي للمجالس العلمية، كان بحق رجل خير وصاحب همة ونشاط نادرين، تقبل الله منه ذلك كله وجعله في ميزان حسناته.
مرت الأيام ونحن على صلة، تتخللها بعض الانقطاعات نظرا للمشاغل وهموم الدنيا، إلى أن التقينا في انواكشوط خلال دراسته في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، زرته ذات مساء في (تنسويلم)، فأطلعني على مشروع يعمل عليه، وبعض الآراء الشخصية حول بعض المسائل، وقال لي: (لا تعجبني نقاشات الفقهاء لبعض الأبواب الفقهية) وكان يقصد بالذات أحاديثهم عن الرق وملحقاته، وآراءهم في تلك القضايا، وأذكر أن الحديث دار أيضا حول ضرورة إعادة شرح بعض المتون الفقهية التي لم تُشرح حتى الآن شرحا يُبنين غوامضها ويقربها من الطلبة، وكان من تلك المتون –إن لم تخني الذاكرة- متني (طلعة الأنوار في المصطلح، وكفاف المبتدي في الفقه).. كما أطلعني على منظومة فقهية كان يحررها ويريد طباعتها على جهازه، ثم ودعته بعد صلاة العشاء، ليكون ذلك آخر لقاء يجمعنا على أرض الواقع..
علمت بخبر وفاته من أحد أقرابائه، فكان خبرا كالصاعقة، رحل الصفي، فكأن الروح فارقت الجسد، كان يوما صعبا علي، ولسوء الحظ كنت يومها خارج العاصمة وتأخر قدومي إليها.. إنا لله وإنا إليه راجعون..
نؤمن بقضاء الله وقدره، ولنا في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلوى، وإن كان فقد الفقيه محمد يحيى المختار فقدا عظيما ومصابا خطيرا.
ختاما، ليس كل الرجال محمد ولا كل المدائن مدينة انواذيبو، وهذا ما يفرض على طلبة يحيى ومحبيه مواصلة المسير ورفع راية العلم والتعليم، وفي المدينة شباب مبارك وشيوخ مباركون، جزاهم الله خيرا وأجزل لهم المثوبة، وأحسن عزاؤهم في فقيدهم.
رحمه الله ورضي عنه وتقبله في الصالحين، وجعل دعوته، وعلمه، وتعليمه الناس في ميزان حسناته..
لقد كان نورا في الأرض يمشي نسأل الله أن ينور ضريحه، ويدخله الجنة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بقلم/ أحمد سلمان