ولد امسيكه:الموريتاني الذي أذاق الفرنسيين الرعب لأكثر من رب قرن
اشتهرت موريتانيا، ذلك البلد النائي في أقصى الغرب العربي والأفريقي، على الدوام في المخيلة العربية ببلد المليون شاعر، فيما عُرف أهلوها بغزارة العلم وطيب المَحتد، بينما عُرفت أراضيها بأنها صحراء شاسعة لا يكاد يُرى لها آخر، لكنّ قليلا من أبناء الوطن العربي من يعرف أن أرض موريتانيا أنجبت أبطالا أفذاذا دافعوا عن ترابهم وكرامتهم ضد المحتل الفرنسي الذي كان -ولا يزال فيما يبدو- يرى أبناء العرب الأفارقة بشرا من الدرجة الثانية لا حقَّ لهم في الحياة الكريمة، بيد أن أبناء شنقيط ما كانوا ليرضوا بالتبعية للمحتل الفرنسي بسهولة ويُسر.
ومن بين هؤلاء الرجال بزغ نجم ولد إمسيكة الذي أذاق الفرنسيين الويلات طوال ما يقرب من ثلاثة عقود، وصنع في مخيلة الموريتانيين صورة البطل الشعبي الذي لم يكن يحمل معه إلا بندقيته وناقته يرتحل من واد إلى واد ومن بيداء إلى أخرى غير مُبالٍ بيومه أو غده، فكيف احتل الفرنسيون موريتانيا؟ وكيف عاملوا أهل البلاد فيها؟ وكيف نشأ ولد إمسيكة وسط هذه البيئة القاسية؟ وكيف سارت حياته في النضال ومواجهة المحتل؟ ذلك ما سنُطلعكم على طرف منه في السطور التالية.
منذ نهايات القرن السابع عشر، كانت فرنسا في تنافس شرس أمام الإسبان والبرتغاليين والإنجليز للفوز بمناطق غرب أفريقيا التي كانت مطمعا تجاريا واقتصاديا، واستطاعت بالفعل أن تُنشئ مستعمرة سان لويس في السنغال منذ فترة مبكرة، لتكون منطلقا لها إلى ما يجاورها من البلدان والقبائل لنهبها واحتلالها.
لكن فرنسا أُجبرت على التوقيع على معاهدات تجارية مع أبناء موريتانيا من زعماء البراكنة والترارزة في عام 1821 من أجل استمرار تجارة الصمغ بين الطرفين، كما أُجبرت على دفع مبالغ سنوية كبيرة لزعماء قبيلة البراكنة في جنوب موريتانيا ووسطها، وتُشير معاهدات فرنسا مع الموريتانيين أعوام 1824، 1826، 1829، 1831، 1832 إلى مدى حرصها على مهادنة القبائل الموريتانية لتوفير الحماية للتجار الفرنسيين والمستكشفين، ومنع هذه القبائل من الإغارة على المراكز التجارية الفرنسية لا سيما في مستعمراتها جنوبا في السنغال وما حولها.
والحق أنه طوال القرن التاسع عشر، لم تتوقف فرنسا عن إرسال بعثاتها الاستكشافية للوقوف على الأوضاع الداخلية لقبائل البيضان "الموريتانيين"، ومناطق نفوذهم، وسبل تحقيق السلام والتجارة معهم، والأهم، كيفية إخضاعهم للاحتلال الفرنسي في غرب أفريقيا. ففي عام 1899، كُلِّف حاكم السودان الفرنسي (مالي حاليا) كزافييه كبولاني بمهمة التفاوض مع القبائل الموريتانية والطوارق والقيام بدراستهم من وجهة النظر السياسية والكولونيالية الفرنسية، والعمل على إخضاعهم بالطرق السلمية، وقد دُعمت هذه البعثة ماليا من طرف الحكومة الفرنسية العامة في الجزائر. (2)
قدمت لجنة كبولاني تقريرا إلى الحكومة الفرنسية في مارس/آذار 1902 توضح فيه أن المستوى الثقافي والفكري والأخلاقي للموريتانيين يفوقُ نظيره في أفريقيا الشمالية، إضافة إلى تعلُّقهم بدينهم وعاداتهم البدائية ووضعهم الاجتماعي الذي يكشف عن حضارة أرفع من حضارة أسلاف الأوروبيين في القرون الوسطى، وعليه أوصت هذه اللجنة أن يكون الاحتلال سلميا وتدريجيا، ولهذا الغرض أُنشئت المصلحة الخاصة بشؤون البيضان "الموريتانيين" وأصبح كبولاني رئيسا لها، ومع اكتمال إعداد الخطة الموضوعة بدأت مرحلة تنفيذ "الاحتلال السلمي" بمساعدة بعض زعماء قبائل البلاد الذين حسبوا أن فرنسا تريد "التعاون" السلمي والتجاري وتوحيد القبائل والبلاد، فأصدر بعضهم فتوى تؤيد الانضمام لفرنسا في هذا المسعى، لتشق باريس طريقها أخيرا في أراضي موريتانيا في ديسمبر/كانون الأول 1902.
راحت فرنسا تحتل البلاد بأسلوب أشد خبثا وليونة في بادئ الأمر مقارنة بأسلوبها الخشن والعسكري شديد الوضوح في بلدان شمال أفريقيا مثل الجزائر على سبيل المثال، واستطاعت السلطات الفرنسية أن تقنع بعض أبناء موريتانيا بالتعاون معها في تحقيق أهدافها الاستعمارية وقد سُمي هؤلاء باسم "كوميات"، ولكي يسهل عليها مهمة السيطرة الكاملة على البلاد أنشأت شركة لتشييد الطرق عرفها الموريتانيون باسم "صمب طلي"، وفي نهاية ذلك العقد، العقد الأول من القرن العشرين، بالتحديد في عام 1908، وُلد محمد ولد إمسيكة في ضواحي مدينة المذرذرة في جنوب غرب موريتانيا، وهي المدينة التي كانت تستضيف واحدة من القواعد العسكرية للمحتل الفرنسي إبان دخوله البلاد من السنغال جنوبا.
عمل ولد إمسيكة في صباه راعيا للغنم، وكعادة أهل موريتانيا أحب الشعر، والقصائد النبوية، واجتمع له مع ذلك صوت حسن، فصار بلُغة القوم مدّاحا يُطرب الناس في أفراحهم ومواسم لقياهم بأشعاره وصوته النديّ، كما اجتمع له صفات قوة الجسد والبنية والفروسية وحمل السلاح، فصار شاعرا مدّاحا مرهف الحسّ، وفي الوقت نفسه فارسا قويا لا يُشق له غبار.
وما إن شبّ عن الطوق إلا وضاق ذرعا بعادات المحتل الفرنسي الكريهة التي كانت تتعارض مع تقاليد المجتمع الصحراوي الحسّاني في بلاده، وكذلك باحتقار الفرنسيين لبني جلدته، قبل أن يُعاين هذه الحقيقة بنفسه حين انضم كعامل "منيفر" إلى الشركة الفرنسية لإنشاء الطرق "صمب طلي" التي كانت تُنشئ الطريق القديم المسمى "بالمير" الواصل بين مدينة لكوارب (مدينة روصّو جنوب البلاد على الحدود مع السنغال اليوم)، وبين مدينة نواكشوط، التي صارت عاصمة البلاد فيما بعد.
عمل ولد إمسيكة في هذه الشركة حمّالا؛ لقوته وبنيته الجسدية، بيد أنه رأى الظلم وأكل حقوق العُمال والأنفار، بأيدي الفرنسيين تارة وبأيدي بأعوانهم من الموريتانيين المتواطئين معهم تارات أخرى، لقد عمل الآلاف من العُمال بنظام السُّخرة، ولأجل سوء المعاملة هذه كان الناس يُخفون أبناءهم بعيدا عن أيدي البطش، ورغم ذلك كان الفرنسيون يجبرون أهل البلاد على العمل دون رحمة أو شفقة.
ولد إمسيكة:
كره ولد إمسكية المظالم التي أنزلها المحتل الفرنسي ببلاده، وقرَّر أن يحمل بندقيته ويسلك سبيل النضال في مكافحة هذا المحتل بجهده وكدّه ولو كان وحده، وبدأ في شن عمليات فردية ضد الفرنسيين وأعوانهم "الكوميات"، واستطاع أن يُغير عليهم مرات عديدة وينهب منهم السلاح والأموال، وكانت دائرة تحرُّكاته واسعة جدا تتراوح بين ولايات ما بين ضواحي نواكشوط في الشمال وحتى روصّو في الجنوب، وكذلك في المنطقة الشرقية من البلاد، بل ثبت أنه قام بعمليات ضد الفرنسيين في الغرب، وكانت قدرته على التحرُّك بسرعة والتخفي مدهشة، لذا سرعان ما تعاظمت سيرته، وتعاطف معه أهل موريتانيا بقبائلها وأعراقها كافة، فقد كان يواسي الضعيف والمحتاج على قلة ما في يده في أغلب الأحوال. (5)
ثارت ثائرة الفرنسيين، وجاءت الأوامر بالقبض على ولد إمسيكة بكل السبل، فخصَّصوا "أعوانهم" للبحث عنه وتقصّي أثره، وقد تصادف أنه كان في حفل من حفلات الصحراء وكان ينقر على الطبل في ذلك الحفل، ومع ذلك كان قد تخفَّى جيدا فلم يعرفه أعوان الفرنسيين، بيد أنه عرفهم وأدرك مقصدهم وغرضهم، وبعد انتهاء الحفل استطاع ولد إمسيكة أن يقتل نفرا كثيرا منهم ليزداد حنق الفرنسيين وغضبهم. (5)
عند هذا المنعطف قرَّر الفرنسيون أن يوكلوا مهمّة التخلُّص منه إلى رجل سنغالي اسمه موسى بيدي عُرف عنه دقّة الرمي والتصويب وتعقُّب الأثر، وكان شرسا قويا لا يشق له غُبار، ووعدوه بالمكافأة الكبرى إن تخلّص من عدوهم، وقد عرف موسى السنغالي موضع ولد إمسيكة، لكن ولد إمسيكة عرف خبره، ووقف له في الطريق دون أن يعرفه موسى، وقال له، سأدلك على ولد إمسيكة، ثم أخذه إلى مكان ناءٍ في الصحراء بعيدا عن المدينة، فنزع بندقية السنغالي تحت تهديد السلاح، ثم سلب عنه ملابسه وتركه عاريا، فأرغمه على النزول إلى المدينة بهذه الصورة ليُجن جنون الفرنسيين من جديد، وتتهاوى صورتهم ويصبحون حديث الصباح والمساء في البلاد.
ظل ولد إمسيكة حرا طليقا يدوّخ الفرنسيين وأعوانهم، ويدبّ في قلوبهم الرعب، ويلاقي من أهل موريتانيا قاطبة الدعم والنجدة والمأوى، حتى إذا جاء صيف عام 1950 الحار بعد ما يقارب ثلاثة عقود على نضاله ضد المحتل الفرنسي، رصد الفرنسيون مكافأة ضخمة للقبض عليه هذه المرة، مكافأة سال لها لعاب نفر من ضعفاء النفوس من أصحاب ذلك المناضل، على رأسهم شخص اسمه عبدات وآخر يدعى سام، قررا الاتفاق مع الفرنسيين لتسليمهم مطلوبهم.
وبينما كان ولد إمسيكة في يوم من الأيام يُعِدُّ الشاي تحت كثيب من الرمال -كعادته- في صحراء ولاية البراكنة جنوب البلاد، إذ رأى رجلين مُقبلين، فامتشق بندقيته وأخذ موقعه، فلما اقترب الرجلان تبادل معهما السلام والحديث، ثم طالبهما بالكشف عن نفسيهما، فقالا له كيف تشك في صديقيْك سام وعبدات؟ فأمِن لهما ولد إمسيكة بعدما أعطياه موثقا من الله ألا يُخبرا عنه أحدا، فبدأ كعادته بإكرام ضيفيه، وعلق بندقيته على شجرة قريبة وبدأ يشوي اللحم لصديقيه، لكن عبدات تذكَّر الجائزة الفرنسية المغرية فتبادل مع زميله سام نظرات الخيانة والمكر، وكان المناضل ولد إمسيكة على بُعد أمتار منهما، فقفز عبدات إلى بندقية ولد إمسيكة المعلقة على الشجرة، وصوَّبها نحو مُضيفه الذي أخذ منه العهد والأمان منذ قليل، فأرداه قتيلا، ولم يكتفيا بهذا، بل قطعا رأسه وحملاه إلى الحاكم الفرنسي في ألاك عاصمة ولاية البراكنة حيث تنتظرهما الجائزة الكبرى كما ظنّا. (7)
حمل سام وعبدات رأس المناضل الكبير إلى الحاكم الفرنسي الذي ما إن رأى رأس ولد إمسيكة حتى جُنّ جنونه، ووبَّخهما على قتله وجزّ رأسه، حيث كانت الأوامر القادمة من باريس تنص على القبض عليه حيًّا، وسرعان ما أمر القائد الفرنسي بالقبض على القاتلين لمخالفتهما الأوامر، وأمر بإيداعهما السجن، فنالا في النهاية جزاء سنمّار بفعلتهما، وقد وجدنا في الرواية الشعبية الموريتانية أن أحد أصدقاء ولد إمسيكة رآه في المنام وهو ينشدُ:
كول إلسام أكول إلعبدات (قل لسام ولعبدات)
والقوم اللي كبظو بيدي (قبضوا علي)
عن يوم الدني راه فات (فاتت الدنيا)
نلكاهم يوم الوعيد (سنلتقي بهم يوم القيامة
بقلم: أحمد ابراهيم
المصدر: الجزيرة نت