صناعة الفحم تهجر أوروبا وأمريكا وتستوطن آسيا
إذا تصفحنا كتب التاريخ فسنجد في مبررات نهضة بريطانيا الصناعية توفر موارد الطاقة لديها وانخفاض أسعارها نسبيا ولم تكن تلك الموارد إلا مناجم الفحم.
لكن صناعة الفحم التي منحت الثورة الصناعية في القرن الـ18 القدرة على النمو والازدهار، ها هي تلفظ أنفاسها في أوروبا والولايات المتحدة، بعد أن باتت المراكز التاريخية للنهضة الصناعية تتجه بشكل متسارع للاعتماد على الطاقة النظيفة، ولتحمل صناعة الفحم خبرتها وقدرتها لتستوطن الآن في اقتصادات آسيا الناشئة.
بين عامي 2009 و2019 نما الاستهلاك العالمي للفحم بمعدل 1 في المائة سنويا ليصل إلى 7.6 مليار طن، مع هذا فإن حصة الفحم من إمدادات الطاقة الأولية في العالم تراجعت من 28 في المائة إلى 26 في المائة خلال الفترة نفسها، وانخفض نصيب الفحم في توليد الكهرباء من 40 في المائة إلى 36.5 في المائة.
قد يكون هذا مفهوما في ظل تغير المزاج العالمي تجاه الفحم، فالصين تصر على أنها ستواصل الحفاظ على التزاماتها الدولية بخفض انبعاثات الكربون إلى الصفر بحلول عام 2060، والرئيس الأمريكي جو بايدن يجدد التعهد بانضمام الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس، بعد أن أخرجها الرئيس ترمب منها، ومع الركود الاقتصادي الناجم عن جائحة كورونا، وانخفاض الطلب على الكهرباء، اتجه عديد من أصحاب محطات الطاقة التي تعمل بالفحم إلى إغلاق محطاتهم.
ففي النصف الأول من العام الماضي أغلقت بريطانيا ثلث طاقتها التوليدية المتبقية التي تعمل بالفحم، أما إسبانيا فقد سارت على ذات المنوال وأغلقت سبع محطات تعمل بالفحم، ما أدى إلى خفض قدرة الفحم على إنتاج الكهرباء في البلاد إلى النصف، حتى الهند التي يولد الفحم ما يقرب من ثلاثة أرباع الكهرباء فيها، فقد أوقفت نحو 300 ميجا واط من الطاقة المولدة من الفحم في النصف الأول من العام الماضي، ولم تقم ببناء محطات جديدة تعمل بالفحم، حتى محطة الطاقة التي تعمل بالفحم التي أنشئت أخيرا في نيومكسيكو في الولايات المتحدة لإنتاج 250 ميجا واط من الكهرباء، لم تنتج أي شيء منذ آب (أغسطس) الماضي ولن تنتج في المستقبل.
ومن منظور الجهود الدولية المبذولة حاليا لمكافحة التلوث والحد من الانبعاثات الكربونية، وتسريع التحول إلى الطاقة النظيفة، فإن الطلب على الفحم خلال العقد الماضي ظل مرتفعا، لكن بالنسبة لصناعة الفحم فإن ذات العقد كان أقل من التوقعات الأولية المرتفعة التي روج لها قادة تلك الصناعة.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" المهندس ميركري سميث رئيس قسم البحث والتطوير في شركة تشرشل للمناجم، "العقد الأول من القرن الـ21 شهد أكبر نمو في الطلب على الفحم في التاريخ، أكبر من العقود الأربعة السابقة مجتمعة، واستحوذت الصين على 85 في المائة من النمو العالمي في استهلاك الفحم، لتزويد اقتصادها الصناعي سريع النمو وبناء بنيتها التحتية، في ذلك الوقت بدت التوقعات بأن طلب الصين على الفحم سيستمر في النمو المعقول".
ويضيف المهندس ميركري، "لكن تلك التوقعات تلقت صفعة قوية في العقد الثاني من القرن الـ21، وكان الطلب عام 2019 أقل مما كان عليه عام 2013، ومرجع ذلك التغيرات الهيكلية في الاقتصاد الصيني، وثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة، والارتفاع السريع لاستخدام طاقة الرياح والطاقة الشمسية، وبالطبع السياسات الدولية للتصدي للتغير المناخي".
وفقا للأرقام الدولية المتاحة فإن الصين مسؤولة عن نصف إنتاج العالم واستهلاكه من الفحم، لكنها لم تعد مصدرا رئيسا لنمو الطلب، إذ توقف استهلاك الصين للفحم عن النمو بعد عام 2013، وعلى الرغم من أن نمو استهلاك الفحم في الهند قوي، إلا أنه لا يزال أقل من نظيره في الصين.
مع هذا يعلق لـ"الاقتصادية" هاري جورج من جمعية تحالف المناخ وهي أكبر منظمة بريطانية تضم في عضويتها 100 جمعية تعنى بمكافحة التلوث المناخي قائلا، "لا يزال الفحم يمثل نحو 27 في المائة من الطاقة المستخدمة لتشغيل كل شيء في بعض المشاريع والشبكات الكهربائية، وعلى عكس النفط أو الغاز الطبيعي فهو عبارة عن كربون مركز، وبالتالي فهو مسؤول عن نسبة مذهلة تبلغ 39 في المائة من الانبعاثات السنوية لثاني أكسيد الكربون، وإذا كان للانبعاثات العالمية أن تنخفض بدرجة كافية وبسرعة فإن المهمة الأساسية الآن دفع الغرب لزيادة جهوده للابتعاد عن الفحم، وقد نجحنا إلى حد كبير في ذلك، فآخر محطة طاقة تعمل بالفحم في المملكة المتحدة ستغلق العام المقبل، لكن بالنسبة لآسيا الأمر مختلف، علينا الإسراع بمنع تلك الصناعة من تركيز جهودها والاستيطان في القارة الآسيوية، لكن هذا ليس بالأمر الهين".
وبالفعل فالأرقام المقبلة من آسيا تشير إلى أن التصدي لصناعة الفحم في الاقتصادات الآسيوية الناشئة يبدو صعبا. فخلال العقد الثاني من القرن الـ21 نما الاستهلاك في آسيا بمقدار الربع، وتمثل القارة الآسيوية حاليا 77 في المائة من إجمالي استخدامات الفحم، والصين تستهلك ثلثي تلك الكمية، تليها الهند، كما يهيمن الفحم على بعض الاقتصادات متوسطة الحجم سريعة النمو مثل إندونيسيا وفيتنام.
ووفقا للتقديرات الدولية فمن المتوقع ارتفاع الطلب العالمي على الفحم 2.6 في المائة هذا العام، وذلك بعد الانخفاض الذي شهده في العام الماضي، وعلى الرغم من أن أغلب التقديرات تظهر أنه انتعاش قصير الأجل، إلا أنه لا يوجد انخفاض فوري في الأفق، حيث إن ارتفاع الطلب في بعض الاقتصادات الآسيوية أدى إلى تعويض الانخفاضات التي حدثت في أجزاء أخرى من العالم.
والطلب المتزايد على الكهرباء في آسيا نتيجة عملية التصنيع والتحديث المجتمعي المتواصلة، وارتفاع مستوى المعيشة عامة والازدهار والتوسع العمراني وتشييد المزيد من المدن الحديثة، كل هذا يسهم في زيادة الطلب على الفحم لتوليد الكهرباء. ووفقا لتقديرات وكالة الطاقة الدولية فإن الصين والهند يمثلان 65 في المائة من الطلب العالمي على الفحم، وإذا تم تضمين اليابان، كوريا، وتايوان ودول جنوب شرق اسيا، فسترتفع تلك الحصة إلى 75 في المائة.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية" أريك جيب الخبير في شؤون الطاقة، "من المتوقع أن يتلاشى استخدام الفحم بحلول عام 2025، وسيقف الاستهلاك عند حدود 7.4 مليار طن، وبذلك سيكون عام 2013 عندما وصل الطلب العالمي على الفحم إلى ثمانية مليارات طن، هو أعلى مستوى وصل إليه الفحم على الإطلاق، وحصة الفحم في كل من مزيج الكهرباء ومزيج الطاقة الإجمالي في انخفاض مطرد، لكن بالأرقام المطلقة فإن استخدام الفحم ليس مهيأ للانخفاض السريع في المستقبل القريب".
ويضيف، "الطاقة المتجددة في طريقها لتجاوز الفحم كأكبر مصدر للكهرباء في العالم بحلول عام 2025، وبحلول ذلك الوقت من المرجح أن يكون الغاز الطبيعي قد احتل مكانة الفحم باعتباره ثاني أكبر مصدر للطاقة الأولية بعد النفط، لكن مع استمرار الطلب على الفحم من المتوقع أن يظل الطلب ثابتا أو ينمو في الاقتصادات الآسيوية، فالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة سيشكلان معا أقل من 10 في المائة من الطلب العالمي على الفحم بحلول عام 2025 مقارنة 37 في المائة عام 2000".
لكن النشطاء في مجال التصدي للتغير المناخي، يعتقدون أنه إذا كان الهدف هو الحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الصناعة، فإنه لا يمكن انتظار أن تخوض آسيا تجربة التصنيع مثل أوروبا الغربية والولايات المتحدة حتى تتلاشى شهيتها للفحم.
لهذا تضغط عديد من اللوبيات الدولية حاليا على الأقطار الآسيوية لتبني سياسات جديدة تساعدها على التخلص من عادتها الراهنة والمتعلقة بالاستهلاك الكثيف للفحم، وتطلب تلك المجموعات من قادة الدول الآسيوية إيقاف بناء محطات الطاقة الجديدة التي تعمل بالفحم، وإيقاف المحطات القائمة. وبالفعل فإن بعض الدول استجابت لتلك الضغوط، إذ أعلنت الفلبين وقفا اختياريا للمحطات الجديدة، واليابان وبنجلادش تبطئان عملية البناء والتشييد.
لكن الواقع يشير إلى أن الدول الآسيوية إذا أرادت اكتساب مصداقية في هذا المجال فعليها معالجة مشكلات أعمق.
يقول لـ"الاقتصادية" البروفيسور إم. أي. روبين أستاذ اقتصادات الطاقة في جامعة لندن، "الاستراتيجية التي اتبعت في الولايات المتحدة وأوروبا للتصدي لثقافة استهلاك الفحم، تواجه بتحد هيكلي في آسيا، فشركات التعدين ومحطات الطاقة ومصنعي المعدات والبنوك التي تمول كل هذا جميعه تخضع لسيطرة الدولة، ومن ثم فإن سياسة قوى السوق عبر آليات العرض والطلب أو الحوافز لا يكون لها في آسيا ذات المفعول الذي امتلكته في أوروبا أو الولايات المتحدة".
ولهذا يقترح البروفيسور إم. أي. روبين الضغط على الحكومات الآسيوية لإعادة تصميم أنظمة الطاقة بحيث يمكن لمصادر الطاقة المتجددة المنافسة بشكل عادل، وبما يسمح لنظام الحوافز أن يعمل، ومن ثم تتمكن الطاقة المتجددة من تقويض الاعتماد على الفحم بمرور الوقت.
مع هذا يمكن القول إنه مهما كانت الضغوط أو الحوافز الدولية فإن الأمر في نهاية المطاف يعود إلى الآسيويين أنفسهم، حيث يوجد لديهم مصلحة حقيقية في التخلي عن الفحم الذي يعرض سكانهم وبنيتهم التحتية والزراعية إلى أخطار الجفاف والفيضانات والعواصف وغيرها من التغيرات الناجمة عن تغيير المناخ.
باختصار ستدخل صناعة الفحم ومحطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم المتاحف عاجلا أم آجلا، وكلما ساعدت الاقتصادات الآسيوية الناشئة في القيام بذلك عاد عليها ذلك اقتصاديا ومجتمعيا بالفائدة.