ملحمة الحكاية... زلزال فني يتحدى السائد ويبشر بغد درامي واعد/ ديدي محمد امحمد

مع ثبوت رؤية كل هلالٍ رمضاني، تتأهب الشاشات الموريتانية لاستقبال موسمٍ درامي جديد، تتسابق فيه الأعمال التلفزيونية لاقتناص اهتمام المشاهدين، الذين اعتادوا أن يكون هذا الشهر الفضيل نافذتهم السنوية إلى قصصٍ تحمل بين طياتها همومهم وأحلامهم، وتقدم لهم وجباتٍ بصريةً تُغني سهراتهم.
في هذه الأجواء، ووسط زحمة الإنتاجات العربية والعالمية، كانت الدراما الموريتانية تخطو بحذر، تترقب فرصتها لتثبت نفسها وتكسر حاجز التبعية، حتى جاء "الحكاية"، المسلسل الذي قلب المعادلة رأسًا على عقب.
لم يكن "الحكاية" مجرد عمل درامي آخر يُضاف إلى قائمة العروض الرمضانية، بل كان زلزالًا فنيًا ضرب المشهد الدرامي الموريتاني بقوة، معلنًا عن ميلاد عصرٍ جديد للدراما المحلية، حيث استطاع أن يفرض نفسه، لا باعتباره مجرد قصة تُروى، بل كعمل يُعيد تعريف الهُوية الدرامية الوطنية، جامعًا بين الأصالة والجرأة، وبين التوثيق الفني والطرح الواقعي.
دراما تكسر حاجز المسكوت عنه..
"الحكاية" ليس مجرد دراما عابرة، بل مرآةٌ تعكس ملامح مجتمعٍ ظل لعقود خلت يعيش تناقضاته بصمت، حتى جاء هذا العمل ليُسقط الحجب عن المسكوت عنه، ويُعيد طرح أسئلةٍ طالما تجنبها المجتمع الموريتاني، فبين طيات السيناريو، كتب الصحفي والكاتب الربيع ولد إدوم نصًا ينبض بالحياة، ونقله إلى الشاشة المخرج محمد المصطفى البان، ليُترجم لحظات الألم والأمل التي رسمها النص، أما الإنتاج، فقد كان بيد بون ولد أميده، الممثل والصحفي الذي أخذ على عاتقه نقل الدراما الموريتانية إلى مستوى جديد، مستحقًا بجدارة لقب "عراب الدراما الموريتانية".
تناول المسلسل قضايا جوهرية بجرأة وعمق، وأضاء زوايا ظلّت معتمة لعقودٍ طويلة، فكانت ظاهرة الزواج القسري في طليعة أحداثه، حيث قُدّر للبطلة "أمل" أن تُساق إلى مصيرٍ لم تختره، بعيدًا عن حبها الأول "أدو"، الذي ظل طيفه حاضرًا في وجدانها، لكنه لم يكن كافيًا لتغيير واقعٍ تُشكّله الأعراف أكثر مما تصنعه القلوب، ولم يتوقف المسلسل عند هذه المسألة فحسب، بل كشف عن عمق ظاهرة الزواج السري، الذي بات مخرجًا لبعض العلاقات المحكومة بالمجتمع، كما ناقش قضية تعدد زيجات المرأة، كاشفًا عن تحولات اجتماعية لا تزال تُثير الجدل.
إلى جانب ذلك، تطرق المسلسل إلى ظاهرة صراع الأجيال، حيث جسدت شخصياته الفجوة العميقة بين جيل شبابي يسعى إلى التحرر والتجديد، وبين جيل محافظ يتمسك بالتقاليد ويراها حصنًا منيعًا لاستقرار المجتمع، كما لم يغفل إشكالية عزوف الموريتانيين عن اللجوء إلى الطب النفسي، إذ عالج النظرة السائدة التي تقلل من قيمته وجدوائيته، ما يجعل الكثير من الاضطرابات النفسية تتفاقم في صمت دون علاج، فكان بكل ذلك مرآة تعكس واقعًا يحتاج إلى المواجهة والتغيير.
رؤية إخراجية تعيد تشكيل المشهد الفني
ما يجعل "الحكاية" عملًا استثنائيًا لا يقتصر على جرأة موضوعاته، بل يمتد إلى رؤيته الإخراجية المتجددة، التي منحت الدراما المحلية بُعدًا بصريًا غير مسبوق، فقد خرج المسلسل عن النمط التقليدي الذي اعتادت عليه الإنتاجات السابقة، حيث ارتكز على جمالية الصورة وتنوّع الأماكن، ليخلق تجربة بصرية غنية تعكس واقعًا أكثر حيوية، فلأول مرة، يُصور عمل موريتاني في ثلاث مدن مختلفة: نواكشوط، أطار، ونواذيبو، وهو ما منح المشاهد تنوعًا بصريًا ثريًا، وأتاح فرصةً لنقل بيئاتٍ موريتانية متعددة، بدلاً من الاكتفاء بمشاهد داخلية محدودة.
ومن الجدير بالذكر أن "الحكاية" هو أول عمل درامي موريتاني يشارك فيه 120 شخصًا بين ممثل وفني، مما يعكس حجم الجهد الإنتاجي الكبير الذي بُذل في هذا العمل ليساهم في تقديم تجربة درامية أكثر احترافية.
جدل يُحيي الساحة الفنية..
منذ لحظة بثه الأولى، تحوّل الحكاية إلى مادة دسمة للنقاش، فأثار موجات من الإعجاب وزوابع من النقد، حيث رأى البعض فيه نقلةً نوعيةً تستحق التقدير، فيما اعتبره آخرون خروجًا عن المألوف، غير أن هذا الجدل في حد ذاته هو دليل على نجاح العمل في ملامسة قضايا المجتمع، وإخراجه من حالة الركود إلى ساحة الحوار المفتوح، إذ لم يكن المسلسل صادمًا لمجرد الصدمة، ولم يتجاوز الخطوط الحمراء بحثًا عن الإثارة، بقدر ماكان انعكاسًا أمينًا لواقع يعيشه الموريتانيون، حتى لو اختاروا إغفاله وتجاهله لسنوات.
الموسيقى التصويرية: حين تتكلم الألحان
لأول مرة، يتم توظيف موسيقى تصويرية موريتانية خالصة، حيث اجتمعت كلمات الأديب محفوظ ولد عبو وعزف زيدان ولد النانة، مع أداء العبقري ولد شيغالي ولمسات الظاهرة سيدي كان، لتتشكل بكل ذلك سنفونية فنية أضافت بُعدًا جماليا آخر أغنى لم تكن فيه الموسيقى مجرد خلفية للمشاهد، بل لعبت دور الراوي الصامت، حيث نسجت عبر ألحانها نغمات الفرح، والتوتر، والحنين، متناغمة مع الأحداث، ومضيفة بعدًا دراميًا يجعلها حاضرة في الوجدان حتى بعد انتهاء المشهد.
وثيقة بصرية ترصد ملامح التحولات الاجتماعية
الحكاية ليس مجرد مسلسل، بل هو شهادة بصرية تسجّل لحظةً مفصليةً في مسار الدراما الموريتانية. فقد استطاع هذا العمل، رغم كم التحديات، أن ينقل تفاصيل المجتمع بصدق، ويضعها أمام مرآة لم تجامل أحدًا، فرصد تحولات اجتماعية بارزة، كالتغييرات التي طرأت على العلاقات الأسرية، ودور المرأة في المجتمع وتأثير ذلك على الأجيال الجديدة، كما سلط الضوء على قضايا الهوية الثقافية، والصراع المحتدم بين التقاليد والتجديد، مؤرخًا بذلك لمرحلة مفصلية من تاريخ الدراما الموريتانية.
حين تصبح الدراما مرآةً للمجتمع
لقد نجح الحكاية في أن يكون أكثر من مجرد مسلسل يُعرض وينتهي، بل تحوّل إلى نقطة تحول في المشهد الدرامي الموريتاني، وأعاد فتح أبواب كانت موصدة أمام الدراما المحلية، إنه شهادة على أن الدراما يمكن أن تكون أداة للفهم، ومصدرًا للنقاش، ونافذة لرؤية المجتمع، لا مجرد وسيلة للترفيه فقط.
اليوم، وبعد الحكاية، لن تعود الدراما الموريتانية كما كانت من قبل، فقد أثبتت أنها قادرة على الحلم، وعلى الإنجاز، والأهم من ذلك، قادرة على أن تروي قصصها بنفسها.